تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حكاية، بمثابة أن الملائكة رسل بلّغت مريم بالحرف الواحد: {يَا مَرْيَمُ} فقالت: نعم. قالت الملائكة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وحكى لنا ربُّنا تعالى بهذا النظم الجليل كلام الملائكة الذي هو لا تبديل فيه؛ لأنه بأمر الله، {إِنَّ اللَّهَ} كلام مستأنف، يعني كلام محكيٌّ، {إِنّ} ولفظ الجلالة {اللهَ} اسم {إِنّ} منصوب وعلامة نصبه الفتحة، و"اصطفى" فعل ماضٍ، والفاعل مستتر هو، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنّ}، {قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} هذه الجملة اسميّة تامّة، كأنها ابتدائية؛ لذلك كُسر لفظ {إِنّ} أو كسرت همزة {إِنَّ} كما كسرت في أول الكلام في نحو قول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (الفتح:1) في أول الفتح، وفي قول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) والكلام المحكي كأنه ابتداء، يعني كلام مكوّن من أدواته على وجه كل أداة في العربية، تقول في أول الكلام "إنَّ" أم تقول في أول الكلام "أنَّ"؟ أنت تقول في أول الكلام "إنَّ"، فإذا حكيت ذلك بعد القول ينبغي ألا تتصرّف في الهمزة، فلا تقل بالنّهي، فلا تقل "إن" تتصرّف فيها فتقول: قالت الملائكة أنّ؛ لذلك نبّهنا سيبويه -عليه رحمة الله- إلى أنّ الهمزة مكسورةٌ بعد القول بأن الكلام محكيٌّ، والحكاية بعد القول كلام لا قول.

ما الفرق بين الكلام والقول؟ القول قول من قال، والكلام حكاية من قال، يعني أنا أقول لك قال فلان إني مسافر، وأقول لك قلت: أني مسافر، قولي أني مسافر على الابتداء والخبر، لكن قال فلان إني مسافر الهمزة مكسورة؛ لأنها في ابتداء الكلام، وهو كلام محكي كأني أنقل لك صورة ما قاله المتحدث بالحرف الواحد، أنا سمعته يقول إني مسافر، فلما أتيتك حدثتك بما سمعت، ونقلت لك كلامه بالحرف الواحد والنص، لا دخل لي فيه ولا تصريف، ولا تصرف، فقلت قال لي أبوك، أو قال لي أخوك إني مسافر، بين قوسين إني مسافر كلام أبيك، بالحرف كما حكى القرآن الكريم كلام لنا قول الملائكة لمريم "إن الله اصطفاك" فكأننا نسمع كلام الملائكة، وهي تخاطب مريم الآن بحروفه.

قال -عليه رحمة الله-: وكذلك جميع ما تصرّف من فعله" يعني: في ظن وأخواتها وجميع ما تصرّف، قال: في القول وجميع ما تصرف، إذن تقول مثل قال، وأقول مثل قال، وقلت أيضًا مثل قال، قال: شبهوها بظن، ولم يجعلوها كـ"يظن" و"أظن" في الاستفهام؛ لأنه لا يكاد يستفهم المخاطب عن "ظن" غيره، وإنما جعلت كـ"تظن" كما أن ما كـ"ليس" في لغة أهل الحجاز إشارة، كأنه يذكرك بـ"ما" التي درستها على أنها "ما" الحجازية التي تعمل عمل "ليس".

التشبيه في الأساليب العربية كلها له وجه شبه، ووجه الشبه بين "ما" وبين "ليس" هو النفي، وهي تعمل عمل "ليس" من حيث إنها ترفع الاسم وتنصب الخبر كما في قول الله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِم} (المجادلة: من الآية: 2) في سورة المجادلة فجاءت {مَا} حجازية، وجاء اسمها {هُنَّ} مبنيًا في محل رفع، وجاء لفظ {أُمَّهَاتِهِم} منصوبًا بالكسرة نيابةً عن الفتحة، وهو -أي خبر {مَا} - منصوب بالفتحة الظاهرة في آية "يوسف" وهي قول الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف:31) و {إِنْ} نافية بمعنى "ما{مَا هَذَا بَشَرًا} "ما" حجازية، أي: عاملة على لغة الحجاز، و {هَذَا} اسمها مبني في محل رفع، و {بَشَرًا} خبرها منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.

والله -تبارك وتعالى- يقول: {مَا هَذَا بَشَرًا}، وبنو تميم يقرءون {مَا هَذَا بَشَرًا} فإذا مضوا إلى غاياتهم وحياتهم قالوا في غير القرآن الكريم: "ما هذا بشرٌ"؛ لأن بني تميم لا يعملون "ما" إعمال "ليس" كأهل الحجاز, وإنما يجعلونها مجرد حرفٍ للنفي، وما بعدها اسمان مرفوعان على الابتداء والخبر، يقول: يذكرنا بإعمال "ما" الحجازية، وقالوا: ما دامت في معناها، ومعنى ذلك أن "ما" شبهت بـ"ليس"؛ لأنها في معناها، أي أن "ما" تفيد النفي، و"ليس" تفيد النفي كذلك، وإذا تغيرت عن ذلك أو قُدّم الخبر رجعت إلى القياس، وصارت اللغات فيها كلغة تميم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير