لاحظ الباحثون المحدثون ان الصيغة النهائية التي جمد فيها النحو العربي متأثرة بالمنطق الأرسطوطاليسي تأثراً كبيراً. يقول الدكتور ابراهيم بيومي مدكور ان النحو العربي تأثر، عن قرب أو بعد، بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأن المنطق الأرسطوطاليسي أثر في النحو من جانبين: أحدهما موضوعي والآخر منهجي. وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ماحدده القياس المنطقي.
ومما يلفت النظر في كتب النحاة المتأخرين انهم يسلكون في بحوثهم مسلك المناطقة. وكثيراً مانجد القوانين المنطقية التي جاء بها أرسطو مسيطرة على عقولهم، كأنهم يتصورون القواعد النحوية تجري على نفس النمط الذي تجري عليه ظواهر الكون.
ومن الجدير بالذكر بالذكر هنا أن القوانين المنطقية القديمة ظهر بطلانها أخيراً، فهي لا تصلح اليوم لتفسير ظواهر الكون. ولكن أصحابنا لا يزالون مصرين على التمسك بها. وهم لا يكتفون بالاعتماد عليها من الناحية الميتافيزيقية، بل نراهم يعتمدون عليها في تعليل قواعدهم النحوية أيضاً. وهذا دليل على اننا نسير متخلفين عن الركب العالمي بمراحل عديدة.
نظرية العامل في النحو:
من قوانين المنطق القديم: أن لكل شيء سبباً وأن لكل حادث محدثاً. وهذا مايعرف لدى المناطقة بقانون السببية. وقد شغف به النحاة وجعلوه أساساً لعلمهم. ومن هنا نشأت عندهم نظرية العامل. وهي نظرية تشغل حيزاً كبيراً من كتبهم، وتعد أهم موضوع عندهم.
ونظرية العامل هذه تدور حول السبب الذي يجعل الكلمة مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة. فالنحاة يرون الحركات الاعرابية تتبدل في الكلمة مرة بعد مرة على نظام مطرد. فقالوا أن هذا التبدل عرض حادث وهو لابد له من محدث كما يقول المناطقة. فما هو هذا المحدث؟ وفي البحث وراء هذا المحدث صار النحاة يخلطون ويخبطون خبط عشواء.
ثم ذهبوا إلى القول بأن اجتماع عاملين على معمول واحد غير ممكن. وهم يستندون في ذلك على قانون عدم التناقض الذي جاء في المنطق القديم. فهم يقولون: إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، أما إذا اختلفا فالنقيضان يجتمعان في المعمول، حيث يكون مثلاً منصوباً ومرفوعاً في آن واحد، وهذا محال أيضاً.
طبيعة العامل:
لو أنهم جعلوا العامل معنوياً لهان الأمر وصار لبحثهم قيمة. ولكنهم استهانوا بالعامل المعنوي وآثروا عليه العامل اللفظي. فهم يعزون رفع الفاعل مثلاُ إلى الفعل الذي يسبقه. وكان الأولى بهم أن يعزوه إلى الفاعلية أو الإسناد، كما يصنع النحاةفي اللغات الحديثة.
نشب جدل بينهم ذات مرة حول العامل الذي جعل المبتدأ والخبر مرفوعين. قال الكوفيون: ان عامل رفع المبتدأ هو الخبر، وعامل رفع الخبر هو المبتدأ. فاحتج عليهم البصريون قائلين: ان الكلمتين لا تتبادلان العمل إذ يكون كل منهما عاملاً ومعمولاً في آن واحد. وحجة البصريين في هذا الشيء لا يمكن أن يكون سبباً ونتيجة في الوقت ذاته. وقد أخذوا ذلك من المناطقة طبعاً.
ومن المبادئ التي نادى بها ابن مضاء القرطبي في إصلاح النحو هو إلغاء نظرية العامل من أساسها. ولكن صيحته لم تلق أذناً صاغية، فماتت في مهدها مع الأسف.
تقدير العامل:
كان من الصعب على النحاة أن يجدوا لكل حركة إعرابية عاملاً لفظياً يأتي قبلها. ولهذا لجأوا إلى التقدير، ووصل بهم الأمر في هذا المجال إلى درجة من السخف لا تطاق.
فإذا جئت لهم على سبيل المثال بجملة ” زيداً رأيته” وسألتهم عن العامل الذي نصب “زيداً” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “رأيت”. وبهذا تصبح الجملة عندهم: “رأيت زيداً رأيته”.
وإذا ذكرت لهم الآية القرآنية: “وإن أحد من المشركين من استجارك….” وسألتهم عن العامل الذي رفع كلمة “أحد” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “استجارك” فتصبح الآية: “وان استجارك أحد من المشركين استجارك…”.
دكتاتورية النحاة:
وصار النحاة حكاماً بأمرهم يفترضون العامل كما يشاؤون، فلا يعترض عليهم أحد.
يحكى أن الكسائي كان في مجلس الرشيد ذات يوم فقرأ أبياتاً من الشعر. وكان الأصمعي حاضراً فأراد أن ينافس الكسائي في علمه بالنحو فاعترض على كلمة جاء بها الكسائي مرفوعة. فانتهره الكسائي وقال له: “اسكت، ماأنت وهذا .. ” ثم أخذ يتباهى على الأصمعي ويأتي بالكلمة مرفوعة ومنصوبة ومجرورة. وكان قادراً أن يخترع في سبيل ذلك ماشاء من العوامل. فسكت الأصمعي، وهبطت مكانته في عين أمير المؤمنين.
ويحكى أيضاً: ان أحد أمراء بني بويه سأل نحوياً عن العامل الذي جعل المستثنى منصوباً في نحو “قام القوم إلا زيداً”. فقال النحوي أن عامل النصب محذوف تقديره “استثنى زيداً”، وهنا اعترض الأمير فقال: “لماذا لا يمكن تقدير عامل آخر غير ذلك العامل الناصب، حيث يقدر “امتنع زيد”، وبهذا يصبح زيد مرفوعاً. فسكت النحوي…
ويبدو ان النحوي سكت لأن المعترض عليه كان سلطاناً يجلد ويقتل. ولو كان المعترض رجلاً مستضعفاً كالأصمعي لانتهره النحوي وقال له: اسكت، ماأنت وهذا!
مغربي
¥