ويأتي البدل بدل بداء، ويأتي البدل بدل غلط، وبدل نسيان، وقد أشار سيبويه إلى هذه الأنواع، والفرق بينها كما جاء عن ابن هشام أن بدل الغلط منشؤه اللسان، وأن بدل النسيان منشؤه الجنان، يعني إذا ذكرت كلمةً سبق لسانك بها أنت على غلط تقول: وفي ضوء كتاب سيبويه زارني محمدٌ خالدٌ، ما معنى زارني محمدٌ خالدٌ؟ معناها أن المستحدث قال: زارني محمدٌ، ثم أدرك أمره، وتبين له خطؤه، فاتضح له أن الذي زاره ليس محمدًا، وإنما هو خالدٌ، فجاء بكلمة خالد بعد كلمة محمد، وهذا بدل يسمى بدل الغلط.
وأحب أن أنبهكم إلى ما قاله النحويون -رحمة الله عليهم-: إن بدل الغلط محالٌ أن يقع في القرآن الكريم، ولا في سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الكلامية، ولا في فصيح الكلام، يعني الذي يكتب قصيدة، أو الذي يكتب خطبة هي قطعة من الأدب العالي لا يسمح له أن يذكر فيها بدل غلط؛ لأنه يفكر، والأساليب العالية والعليا في الفصاحة لا يتأتى منها بدل الغلط، كيف وقد حفظ الله كتابه، وأنزله وقد تحدى به الإنس والجن: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: من الآية: 88) يعني: لو ساند بعضهم بعضًًا على الإتيان بمثل هذا القرآن ما استطاعوا أبدًًا، فكيف يكون فيه بدل غلط؟! سبحان الله وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
يذكر سيبويه أن هناك وجه شبه -وهذه مهمة جدًّا- بين قوله: رأيتُ ثلثي قومك، وبين قوله: رأيتُ قومك ثلثيهم، يطيب لي أن أعرب لكم هذين الأسلوبين، رأيتُ ثلثي قومك، يعني بالعين كما تعلمون، يعني أن رأى تنصب مفعولًا واحدًا، رأى فعل ماض، والتاء فاعل، وثلثي مفعول به منصوب بالياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى حذفت نونه للإضافة، وقومك مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة، والكاف مضاف إليه مبني في محل جرٍّ أيضًًا، فإذا قلت: رأيتُ قومك ثلثيهم فما الإعراب؟ رأى هي رأى بصرية أي بالعين تنصب مفعولًا واحدًا وهو قومك، ثم يأتي لفظ ثلثيهم، ما إعرابه؟ إعرابه على عنوان الباب البدل، يعني كلمة ثلثيهم بدلٌ منصوبٌ؛ لأن المبدل منه قومك مفعولٌ به منصوبٌ، والبدل كما تعلمون تابع، والتابع يتبع متبوعه، ومتبوعه قومك وهي مفعول به لرأيت؛ إذن ثلثي بدلٌ منصوبٌ.
****
ولا زال للحديث بقية.
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 08 - 2006, 05:27 م]ـ
بسم الله
السلام عليكم
بارك الله فيك، أخي عمر، وجزاك خيرا.
والمثال الواحد قد يصلح للتمثيل للأنواع الثلاثة: بدل الغلط، أو النسيان، أو البداء
كقول ذي الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعس ******* وفي اللثات وفي الأنياب شنب
أي في شفتيها: سواد أو سواد مشرب بحمرة، وفي لثتها وأنيابها ريح طيب.
والشاهد قوله:
حوة لعس، فإما أن يقال:
بأنه قصد أن في شفتيها لعس، واستقر هذا المعنى في جنانه، وهم لينطق به فغلط ونطق بـ "حوة"، فيكون "بدل غلط"، وإما أن يقال بأنه نطق بـ "حوة" قاصدا اللفظ مع نسيانه المعنى الثاني الذي أراده، ومن ثم استدرك بقوله "لعس" لما تذكر جنانه المعنى المراد، فيكون "بدل نسيان"، وإما أن يقال بأنه قصد وصف "حوة" ابتداء، لفظا ومعنى، ثم عن له بعد تأمل شفتيها أن الأنسب هو وصفها بـ "لعس" فيكون قد أضرب عن المعنى الأول إلى المعنى الثاني، وهذا هو "بدل الإضراب"، والمعنى الأخير أبلغ في وصفها لأنه انتقال من حسن إلى أحسن.
والله أعلم.
بتصرف من "سبيل الهدى بتحقيق شرح قطر الندى"، للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، ص307.
ـ[عمرمبروك]ــــــــ[25 - 08 - 2006, 05:58 م]ـ
البدل على وجه التوكيد
بعد أن استقر الإعراب في أذهاننا يقول لنا الإمام سيبويه: اعلموا أن هناك فرقًًا بين الأسلوبين أنت تقول: رأيتُ ثلثي قومك، وهذا كلامٌ جميلٌ، ولكنه خالٍ من التوكيد، فإذا قلت: رأيتُ قومك ثلثيهم فقد ثنيت الاسم توكيدًا، ومعنى كلمة ثنية الاسم أي ذكرت الاسم ثانيًا؛ لأن معنى القوم ومعنى الثلثين واحد، فكأنك ذكرت القوم مرتين مرة بالكلية قومك، ومرة بكلمة ثلثيهم فأكدت.
¥