تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهنا الذي لم يطلع على كتاب سيبويه ربما يقع في خطأٍ فاحشٍ كما يقول العلماء؛ لأن سيبويه قال بالحرف الواحد: وذلك كما قال -جل ثناؤه-: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (ص: من الآية: 73) سيبويه ذكر هذه الآية، فقد يخطئ قارئ الكتاب ويقول: قال: رأيتُ قومك ثلثيهم كما قال -جل ثناؤه-: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} يأتي الخطأ من حمل التوكيد على البدل، أو من حمل البدل على التوكيد من هنا يأتي الخطأ، يظن القارئ غير البصير أن كلمة كلهم بدل؛ لأن الباب هو باب البدل، أو يظن أن كلمة ثلثيهم في المثال الذي ضربه سيبويه: رأيتُ قومك ثلثيهم توكيد، كما أن قوله -جل ثناؤه-: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} من باب التوكيد، وهذا خطأ أيضًًا، إنما ذكر سيبويه الآية وهو يعلم أن كلمة كلهم، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ} توكيدٌ معنويٌّ.

وذكر هذه الآية شاهدًا على أن البدل يفيد التوكيد كما أن التوكيد المعنوي يفيد التوكيد، يعني يؤكد الكلام المتحدث مرةً بالتوكيد اللفظي ومرةً بالتوكيد المعنوي، فإن زعم زاعمٌ أن التاء كيد قد مضى بابه، وأنه لا عود ذكّره سيبويه بأن البدل يدل كذلك من حيث المعنى على التوكيد، يعني إذا قلت: رأيتُ قومك ثلثيهم تكون قد أكدت ووكدت كلمة قومك، أكدتها لأنك ذكرتها مرتين مرةً بالاسم قومك، ومرة بالثلثين أي: رأيتُ قومك قومك، ولكن قومك الأولى جاءت باللفظ العام الكلي، وكلمة ثلثيه جاءت باللفظ المبعض لما قبله وهو كلمة قوم، فإذا سألت نفسك، وقلت: إن سيبويه -عليه رحمة الله تعالى- ذكر الآية من سورة "الحجر" وسورة "ص": {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (الحجر: 30) على أي وجهٍ ذكر سيبويه هذه الآية؟

الإجابة على وجهٍ يبين فيه أن البدل يُذكر للتوكيد، كما أن هناك ألفاظًا خاصةً في العربية تفيد التوكيد، ومنها كلمة "كل" وكلمة "أجمعون"، وقد اجتمعتا في آيةٍ واحدةٍ هي قول الله ربِّنا: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} قال كما قال -جل ثناؤه- وذكر الآية، ثم قال: وأشباه ذلك، كما في أشباه كل من نحو كل، وكلتا، وبعض، ونفس، وأنفس، وعين، وأعين بشرط اتصالها بالضمير كما تعلمون.

إذن ضرب من التوكيد يكمن في معنى البدل إذا أتينا به، وقد أشار إلى ذلك سيبويه، وذكر من ذلك قول الله تعالى من سورة "البقرة": {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة: من الآية: 217) انظرو إلى الآية، وإلى موضع الشاهد، وإلى بيت الرجز الذي سيأتي بعد لبيان البدل، {قِتَالٍ} وردت في قول الله تعالى مجرورة، ما سبب جرها؟ الجواب: أنها بدل، بدل من أي شيء؟ الجواب: من الشهر الحرام، والشهر ما إعرابه؟ مجرور بعن، والحرام صفته وقتالٍ بدل، لا تقولي إن كلمة قتال تساوي كلمة الشهر، ولا تقولي إن كلمة قتال بعض الشهر، وإنما قولي: إن هذا من قبيل بدل الاشتمال؛ ولذلك جاء الضمير {قِتَالٍ فِيهِ}، وقد قال الشاعر وذكرت أي: أن الناقة أو الجمل تقتد، وذكر

وذكرت تقتد برد مائها وعتك البول على أنسائها

معنى هذا الرجز كأنه مثل يُضرب لكل من عاش خيرًًا، وحيل بينه وبين الخير الذي عاشه، فأخذ يذكره وقد تغير حاله من بعد حال، فقال: وذكرت تقتد، تقتد هذا ماء، وماءٌ جميلٌ، ذكرته الناقة فماذا ذكرت منه؟ ذكرت برد مائها بينما كان حالها أن عتك البول على ساقها، وعتك البول معناه نزوله في حمرة، ومن ثَمّ سميت المرأة عاتكة كأنها محمرة بطيب، يقول: وكأن الناقة ماثلة أمامنا تذكر تقتد أي: تذكر محمية تقتد أو نهر تقتد برد مائها، ذكر فعل ماض مبنيٌّ على الفتح، والتاء للتأنيث، والفاعل مستترٌ تقديره هي، وتقتد مفعولٌ به منصوبٌ علامة نصبه الفتحة، وبرد بدلٌ، هل البرد بعض النهر أم أن برد ماء النهر؟ من صفات هذه النهر التي ليست هي هي وليست هو هو، وإنما هو بدل اشتمال كما في الآية قبلها.

وأحب أن أنبه حضراتكم أن إذا كتبتم مؤلفًا في النحو، أو ألقيتم محاضرة فيه تنبهوا هذا الأصل من أصول الكتابة أن تبدءوا بالقرآن الكريم، ويلي ذلك ما تستشهدون به من حديثٍ، أو شعرٍ، أو نثرٍ على هذا الترتيب، القرآن أولًا إذ لا يصح أن تقول في بدل الاشتمال:

وذكرت تقتد برد مائها وعتك البول على أنسائها

ثم تشرح لنا معنى البيت، والشاهد فيه، ثم تقول: ومن ذلك قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة: من الآية: 217) هذا ليس أدبًًا مع القرآن الكريم الذي وُضِعَ النحو من أجل خدمته، فتذكره أولًا مراعاةً لسموه وعلوه، وشرف مكانته ومنزلته، وأنه يتقدم على كل كلام، ويسبق كل بيان، فتقول كما قال سيبويه: ومن ذلك قوله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ثم قال: وقال الشاعر:

وذكرت تقتد برد مائها وعتك البول على أنسائها

وذكرت تقتد برد البدل المنصوب، مائها مجرور بالإضافة، والحال وعتك البول على أنسائها، عتك مبتدأٌ مرفوعٌ، والبول مضاف إليه، وعلى أنسائها متعلقٌ باستقر أو مستقر هو خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصبٍ حال.

**********

وللحديث تتمه (إن شاء الله)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير