تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونحن نقف هنا وقد قرأنا عبارة المبرد، وكأن التمييز المنصوب مشبه بالمفعول به، وهو يستطرد في لطف وفي جمال، ويذكر ما ذكره سيبويه من تشبيه "ما" بـ"ليس" وكأن "ما" إنما شبهت بـ"ليس" لمعنى النفي وهو عين ما قاله سيبويه وهو مقرر علينا، إلا أن سيبويه -رحمة الله عليه- يذكر أن "ما" تُحمل على "ليس"؛ لوجه شبه مشروط، فهما للنفي، فإذا اختل شرط من الشروط عادت "ما" تميمية، وذكر ذلك في باب: "إلحاق القول بالظن".

والمبرد هنا يقول: إن الإضافة قد امتنعت، ومعنى أن الإضافة قد امتنعت في نحو: عندي عشرون درهمًا، وعندي عشرون ثوبًا، وعندي عشرون صديقًا، وهكذا، فمعنى ذلك: أن ما بعد العدد هو مفعول به من حيث المعنى، يعني كأنه يريد أن يقول: إن هناك نوعًا من الشبه بين التمييز المنصوب وبين المفعول به في الحقيقة، ثم ذكر هذا الأمر، وهو إلحاق "ما" بـ"ليس" كما ذكرها سيبويه -عليه رحمة الله.

وقال: والتشبيه يكون للفظ وللتصرف والمعنى -أي: وللمعنى- وقال: فأما المعنى فتشبيه كـ"ما" بـ"ليس" ثم قال: وليس فعل -يعني: اعلم أن ليس فعل- و"ما" حرف، يعني كأنه يريد أن يقول لك: أن أتأمل بالنيابة عنك، أتأمل أن "ليس" من الأفعال، وأن "ما" من الحروف، وكأنك يا قارئ (المقتضب) تسألني: كيف يُشَبَّهُ الحرفُ بالفعل، وبين الحرف والفعل بون شاسع؟ وأنا أجيب فأقول لك: لقد راعينا المعنى المشترك بين الحرف وبين الفعل، فإن سألتني وقلتَ لي: ما هذا المعنى المشترك بينهما؟

قلتُ لك: النفي، إذن النفي جامع محقق بين ما هو حرف وبين ما هو فعل، وهذا بسببه شُبِّهت "ما" بـ"ليس" مع وجود الفارق في أصل كل منهما، فهذا سبيل الإلحاق، وسبيل كل ما كانت النون فيه عاملة، يعني: ليست محذوفة من أجل الإضافة.

وقد سبقت أن نبهت حضراتكم إلى أن قول النحاة: الضاربون زيدًا على خلاف: الضاربو زيد، حين تقول: الضاربون زيدًا من الرحماء يعني: لم يوجوعوه، ولم يقولوا كما قال الأول: تحية بينهم ضرب وجيع، وإنما قلت: الضاربون زيدًا أي: الذين سيضربونه في المستقبل، أو الضاربون زيدًا الآن من الرحماء، زيدًا إعرابه: مفعول به، وأنتم تعلمون أن اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا كان محلًّا بـ"أل" عمل بلا شرط، وإذا لم يكن محلًّا بـ"أل" عمل بشرط الاعتماد على نفي أو استفهام وبشرط الدلالة على المستقبل.

فإذا حذفت النون فقد سبق السيف العزل، وصار التركيب: الضاربو زيد بالإضافة، وحذفت من أجله النون، ولا نصبَ ولا مفعولية، وإنما جاءت الإضافة لفظية؛ لكي تريح الناس من ثقل النون، ولكي ترفع القُبح من بعض الأوجه الجائزة في الصفة المشبهة التي إذا جاء النصب بعدها كان ذلك قبيحًا؛ لأن الصفة المشبهة تؤخذ من الفعل القاصر لا من الفعل المتعدي، والفعل المتعدي: هو الذي ينصب المفعول، فلما جاء ما بعدها منصوبًا نزلت منزلة المتعدي في هذا النصب وهو قبيح.

وإذا جاء مرفوعًا فمعنى ذلك: أنك تقول: رأيتُ الرجلَ الحسنَ الوجهُ، كيف تقول: رأيت الرجل الحسن الوجه هكذا برفع الوجه؟ وأنت تعلم أنه لا بد من اشتماله على ضمير يعود على الصفة المشبهة كأن تقول: رأيت الرجل الحسن وجهُه، تخلصًا من هذا كله قلنا: رأيت الرجل الحسن الوجهِ؛ تخلصًا من نصب قبيح ومن رفع قبيح أيضًا.

هذا الذي قاله النحاة وذكَروه وفصلوه المبرد -رحمه الله- يذكر لنا هنا وجهه وجماله، ويبين لنا ما ذكره من وجود النون التي منعت الإضافة، وبما أنها منعت الإضافة فقد أوجبت العمل، والعمل هنا النصب، والنصب محمول على النصب، والمعنى المشترك هو ثبوت النون التي منعت الإضافة كما كان المعنى المشترك بين "ما" و"ليس" هو النفي، وإن كان أحدهما من واد، والآخر من واد بعيد آخر.

وكما قال شوقي:

فَإِن يَكُ الجِنسُ يا بنَ الطَلحِ فَرَّقَنا إِنَّ المَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا

هو يريد أن يؤكد هذه الحقيقة لنا وأن يبرزها في ثوب قشيب جميل، كأنه يقول: لو أن سائلًا سأل وقال: ما الدليل على النصب؟ قلنا له: وجود النون، أو أن سائلًا سأل وقال: ما الحكم؟ قلنا: النصب، فلو قال: فلِمَه -بهاء السكت-؟ قلنا: لأن النون حَالت دون الإضافة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير