والحق أن المبرد -عليه رحمة الله- يستطرد كما يستطرد سيبويه، فيبين في غير عنوان قائلًا: إذا قلتَ: أنتَ أفرغ عبد في الناس، لاحظ هنا أن قوله: أنت: مبتدأ، وأفرغ: خبر، وعبد: مضاف إليه مجرور، ماذا يعني المبرد بهذا؟ إنما يعني العبد نفسه أي: أنت أفرغ عبد، هو لا يعني الناس، إلا أنه إذا قال: أنتَ أفرغ العبيد، فقد قدم عليهم ذلك العبد في الجملة، يقول المبرد: إننا أمام تعبيرين مهمين، ما هما؟ تعبير يكون فيه التمييز مفردًا ويستحيل أن يكون جمعًا، يعني: أنتَ تقولُ: عندي عشرون درهمًا، لا يجوز أن تقول: عندي عشرون دراهم، وإنما يجوز أن تقول كما في قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} (الكهف: 103) فذكر - سبحانه وتعالى- التمييز: {أَعْمَالاً} جمعًا لا مفردًا، ذلك يجوز، فيجوز أن تقول: أفرغ الناس عبدًا، فتعني: جماعة العبيد.
ويقول: والجمع أبين إذا كان الأول غيرَ -يعني: مقصود في العدد- يعني يمكن أن تقول: أفرغ الناس عبيدًا كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} لماذا؟ لأن العمل يتعدد من فرد إلى فرد، {الأَخْسَرِينَ} في قول الله تعالى مقصودون، كما أن العبيد يمكن أن يكونوا مقصودين، وعندئذ يقول المبرد: أفرغ الناس عبدا، جاء مفردًا، فكأنك تعني جماعة العبيد يعني: عبد من جملة العبيد المعدودين.
ثم يقول: ومن التمييز: ويحه رجلا، وحسبك به شجاعا، إلا أنه ذكر هنا شيئًا خطيرًا جدًّا فقال: وتدخل مِن ها هنا يعني: تستطيع أن تقول: حسبك به مِن شجاعٍ، ولله دره فارسًا، جاء التمييز منصوبًا، ولله دره من فارس، ولذلك يجيء التمييز مجرورًا بمِن هنا، وحسبك به مِن شجاع.
لكن السؤال هنا الذي طرحه المبرد -عليه رحمة الله-: هل يجوز أن تقول: عندي عشرون مِن درهمٍ كما قلت: حسبك به من شجاعٍ؟ الجواب: لا، وأنت مطمئن تمامَ الاطمئنان، لماذا؟ لأنه حين قلتَ: حسبك به من شجاع حَسُنَ أن تدخل مِن توكيدًا لذلك الذكر، فتقول: ويحه من رجل، ولله دره من فارس، وحسبك به من شجاع، ولماذا لا يجوز: عشرون من درهمٍ، ولا هو أفرغهم من عبدٍ؟ لأنه لم يذكره في الأول، ومعنى لم يذكره في الأول: كأنك حين قلت: حسبك به من شجاع، المخاطب يعلم من هو الذي حسبه، يعني: مَن هو كافيه؟ من هو يكفيه؟ لا يريد شجاعًا غيره من ملايين الشجعان، هو مذكور في الأول فحسن أن تَذكر مِن توكيدًا لِمَا ذكرتَه، أو لمن ذكرته قبله، وهذا لا يحدث في المثال: عندي عشرون درهما.
التطبيق العملي في هذا الذي ذكره المبرد أن أقول لك: بيِّن الصواب والخطأ فيما يأتي:
حسبك به من شجاع، صحيحة هذه العبارة أم خاطئة؟ الجواب: صحيحة.
عندي عشرون من درهمٍ، ضع علامة صح أو علامة خطأ أمام العبارة، العبارة نضع أمامها عبارة الخطأ؛ لأن مِن لا تدخل ها هنا، فليس قولنا: عندي عشرون درهما كقولنا: حسبك به -أي: بزيد، أو بخالد، أو بفلان - لكني قلتُ: عندي عشرون درهمًا، وقلت حين قلت: عندي عشرون درهمًا لم تذكر اسمًا مبتدأ به يعود عليه كما عاد: حسبك به من شجاع على زيد أو عمرو أو محمد أو غير ذلك من الأسماء؛ لهذا حكم المبرد بأن زيادة مِن في نحو قولنا: حسبك به من شجاع جائزة، وأن زيادة مِن في قولنا: عندي عشرون من درهم لا يجوز؛ لأن هذا الأسلوب يختلف تمامًا عن هذا الأسلوب، هذه من الحقائق.
بين المبرد والفراء في قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}
بقي أن نقول: إن المبرد -عليه رحمة الله- ذكر قول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: من الآية: 53) وقال: إنه يرى إن قوله: {مِنْ نِعْمَةٍ} {نِعْمَةٍ} تمييز مجرور بمِن، والحق أن هناك خلافًا بينه وبين الفراء -عليه رحمة الله- ومَن وافَقه من أن كلمة: {مَا} شرطية، يعني: {مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ودخلت الفاء في جواب الشرط.
وأن: {مَا} عند المبرد ومن وافقه اسم موصول بمعنى الذي، يعني: الذي بكم من نعمة بيان وتبيين، يعني: تمييز مجرور بمن، فـ {مَا} مبهمة، وهي إما أن تكون شرطية، وإما أن تكون اسمَ موصول، المبرد -عليه رحمة الله- يراها: موصولة، والفراء -عليه رحمة الله- يراها: شرطية.
¥