2 - أمَّا استدلالُهُ - غَفَرَ اللهُ له - بحديث: لا تكتُبُوا عنِّي، ومَن كَتَبَ عنِّي غيرَ القُرآن: فلْيَمْحُهُ: فهو استدلال منقوص غيرُ قائم: إذ قد بيَّنَ الحافظُ الخطيبُ البغداديُّ في كتابه تقييد العلم الوجهَ الصحيحَ في فَهْم هذا الحديث، وأنَّهُ خشية أنْ يُضاهَى بكتاب الله - تعالى - غيرُهُ، وأنْ يُشتغَلَ عن القُرآن بسواه: فلمّا أُمنَ ذلك، ودَعَت الحاجةُ إلى كَتْب العلم لمْ يُكْرَهَ كَتْبُهُ - كما هو نصُّ كلامه - رحمهُ اللهُ -، والذي أقامَ كتابَهُ - كُلَّهُ - من أَجْل بيان الوَجْه الصحيح الحقّ لهذا الحديث.
3 - أمَّا قولُهُ: (إنَّ معظمَ السُّنَّةً النبويَّةً رُويَتْ بروايةً الآحاد، أي: برواية الواحد، أو الاثنين، أو الثلاثة)،
قلتُ: فكان ماذا؟، هل العبرةُ - في الصحَّةً والثُّبوت - بعدد الرُّواة، أمْ بثقتهم وجلالتهم؟
وهل أهملَ عُلماءُ الحديث الأفذاذُ هذه القضيَّةَ المهمَّةَ حتَّى يجيءَ - بعدَ قُرون وقرون، - مَن يستدركُ عليهم في بديهيَّةْ مًن أهم بَديهيَّات علم مصطلح الحديث، وثبوت الأسانيد - وأوَّلًيَّاته -؟،
فالأصلُ - ولا بُدَّ - هو: ثقةُ الرُّواة: فإنْ كَثُروا: زاد ذلك الحديثَ صحَّةً واطمئناناً: فكان نُوراً على نُور ...
4 - أمّا ما ذَكَرَهُ الدُّكتور حوَّى من (ظاهرة نَقد المتن من قبَل الصَّحابةً أنفُسهم: حيث لا سَنَدَ أصلاً حتَّى يُنقد، ولمْ يكن الصحابةُ يكذًّبُ بعضُهُم بعضاً)،،
فهذه دَعْوَى غيرُ صحيحةْ، وذلك من وُجوه:
أ - أنَّ الصحيحَ المرويَّ من ذلك (النقد) يسير جدًّا، لا يشكًّلُ (ظاهرة) بالمعنى المُدَّعَى - ألْبَتَّة -.
ب - أنَّ تَوَجُّهَ النقد كان لحًفظً الرَّاوي أصالةً، وليس تكذيباً له، أو نقضاً لخبره، وإنَّما من باب التخطئة لروايته - إنْ صحَّت تلك التخطئةُ وثَبَتَتْ -.
جـ - أنَّ التخطئةَ التي وُوجهَ بها بعضُ الصحابة من صحابة آخَرين - لمرويَّاتهم - وُوجهَتْ - أحيانا - بتخطئة مضادَّة، وثبات على أصل الرًّوايةً: دونَ الْتفات لهذا النقد، فضلاً عن تغيير للرًّواية.
فليست التخطئةُ بذاتها طريقاً للإيقان بالخطأً - كما هو ظاهر -.
د - أنَّ نصَّ كلام عُمرَ بن الخطَّاب - ولفظَهُ - في تخطئته لفاطمةَ بنت قيس - وقد أوْرَدَ قصَّتَها الدُّكتور حوَّى - بَيًّن في تحقيق هذا المعنى، حيث قال - رضي اللهُ عنهُ -: لا ندعُ كًتابَ الله وسُنَّةَ نبيًّنا لقَوْل امرأة لا ندري أحفظَتْ أمْ نَسيَتْ، وهذا الجُزْءُ من الحديث لمْ يذكُرْهُ الدُّكتور حوَّى: فلماذا؟
5 - أمَّا (ظاهرة الرًّواية بالمعنى) التي أشارَ إليها الدُّكتور حوَّى: فليست هي بالصُّورة التي ادَّعاها، وبنَى عليها كلامَهُ بعدَها، وإنَّما الأمرُ فيها - مع التسليم بها - قائم على ضوابط دقيقة، وشروط وثيقة: بَيَّنَها العُلماءُ، ودقَّقُوا فيها.
ولعلَّهُ من هُنا بَدَأ نشوءُ (علم العلَل): الذي له أهلُهُ ورجالُهُ - على مدار التَّاريخ العلميِّ الحديثيِّ - قديماً وحديثاً -.
والحقُّ أنَّ الأصلَ في كُلًّ رواية يرويها ثقةٌ حافظٌ أنْ تكونَ باللفظ لا بالمعنى: فإنْ ثَبَتَ لنا أنَّها بالمعنى: نَظَرْنا: هل المعنى مُؤتَلف، أم مُختلف؟، مُتَّفق مع المُراد أمْ مُفترق؟،
فليست القضيَّةُ فوضَى - من جهة -، ولا دَعاوَى - مًن جهة أُخْرَى -.
6 - أمَّا (ظاهرة التفرُّد والغرابة)، التي أشارَ إليها الدُّكتور حوَّى (والتي يُفْتَرَضُ أنْ تُروَى من روايةً الجَمع أو العدد) - كما قال، -: فهي دَعْوَى - أيضاً - منقوضةٌ جدًّا: إذ للتفرُّد أسبابُهُ العلميَّة أو الاجتماعية - كما بيَّنَهُ العُلماءُ -.
ولعلَّ أكبرَ ردّْ على هذه الدعوى: افتتاحُ الإمام البخاريًّ صحيحَه بحديث: إنَّما الأعمالُ بالنًّيَّات - وهو فَرْد -، واختتامُهُ - أيضاً - صحيحَه بحديث: كلمتان خفيفتان على اللسان .. - وهو فَرْد - أيضاً -.
وأمّا الغرابةُ: فلها معنيان:
معنى اصطلاحيّ، وهو لا يُعارضُ الصًّحَّةَ والثُّبوتَ - مُطلَقاً -.
ومعنى لُغَوًي، وهو معنىً نسبيّّ جدًّا: فما قد يستغربُهُ (زيد) قد يقبلُهُ (عَمْرو): فكان ماذا؟، أبمثل هذه الأوهام تُرَدُّ النُّصوصُ، وتُنقضُ المرويَّاتُ؟،
¥