مثالُه: حديثُ: أبي أمامة الباهلة "من قرأ آية الكرسي .... " هذا الحديث من رواية محمد بن حمير عن محمد بن زياد عن أبي أمامة الباهلي وتفرّد به محمد بن حمير, وهو ثقة, والحديث صحّحه ابن حبَّان ولم يتعرّض عليه أحدٌ من المتقدمين فيما يُعلم, إلا أن ابن الجوزي –وهو من المتأخرين- وضعه في الموضوعات لأنه قال: محمد بن حمير ضعيف الحديث. وهذا خطأ من ابن الجوزي, فالواجب التزام حكم ابن حبان والحكم بتحسينه إن لم نقل بتصحيحه, ولذا نجد من العاصرين من يُضعّفه للتفرّد, ولم يسبقهم في ذلك أحد.
ب- أن لا يوجد في الحديث الفرد أحد قَبِله ولا أعلَّه من المتقدمين. وَهِيَ قِسْمَانِ:
القسم الأول: أن يكون أحد الأئمة قد نصّ على أحد الرواة بالتفرد في حديث. فهنا لا يحكم بالعلّة إلا بأشياءَ:
* النصُّ على الغرابة.
* أن يكونَ متأهلا عالماً محدثاً, ولو فتح هذا الباب على مصراعيه كان من أوسع الباب لهدمِ السنَّة.
* قوةُ القرائن الدالة على الخطأ والوهم. وهُنَّ أَرْبَعٌ:
1 - النظر إلى درجةِ الراوِي من الضبطِ والإتقانِ, فالإتقان والضبط تكونُ نسبةٌ مئوية (70%) وهكذا.
2 - النظر إلى حديثه ما هي درجة التفرّد؟ , لأنه درجات –سواء تفرد مطلق أو نسبي-؟
مِثَالُهُ: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" درجة الغرابة فيه كبيرةٌ جداً, لكن همّ قمةٌ في الضبط والإتقان, وهم: يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إبراهيم التميمي عنه وعلقمةُ بن وقّاص الليثيّ عنه وعمر بن الخطاب عنه.
وهذا الحديث أصلٌ من أصول الإسلام, فالرجال الذين تفرّدوا في هذا الحديث عالية جداً, وأجمع العلماء على تصحيح الحديث لأن الرجال المتفرّد بهم من القمَّة وهي شهادة لهم, وهذا الحديث ليسَ كحديث "لا نكاح إلا بوليّ" مع المسألتان من القضايا التي تعمُّ به البلوى والأول أكثر, أو حديث "من قرأ آية الكرسي ... " وهذا أقل الأحاديث أهميَّة إذ تضعيفه لا ينقص شيئا من الدين, فالتفرد هنا ليس كحديث " لا نكاح .. " و كحديث "إنما الأعمال ... " فالتفرّد درجات متفاوتة. والمسألةُ في ذلك ليستْ بالتَّشهّي, الإمام أحمد يقول: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ربَّما احتج به المحدثونَ وربّما لم يحتجّوا به.
3 - النظر إلى درجة هذا الراوي في هذا الشيخِ خاصةً, فالعلماء نظروا إلى المكثرين من الراوية من المحدثين, كالزهري وعروة ونافع وابن سيرين وقتادة, وقسَّموا تلامذتهم على طبقات من ناحية الأتقن, فأولاً: الحفاظ الكبار والذين اشتدت ملازمتهم لهذا العالم. وثانيا: المتقنين من الحفاظ دون الملازمة. وهكذا ....... إلى أن يصلوا التلاميذ الصدوقين ثم الضعفاء .. الخ. –وهذه أحد طرق علم الطبقات, فله وجهان: هذا أحدهما. وقد اعتنى به المحدثون كثيراً-.
4 - النظر إلى طبقة الراوي من جهة الزمن, هل هو من كبار التابعين أو أواسطهم أو صغارهم, هل من التابعين أو أتباعهم, وكلما علت طبقة الرجل كلما كان ذلك أدعى لتفرده, فقَبول تفرّد التابعي الكبير أولى وأقوى من تفرّد التابعيّ الصغير, وقبول تفرّد صغار التابعين أولى من كبار أتباع التابعين. ثم نصل إلى صغار أتباع التابعين فنجد أن قبول التفرد منهم محتمل, أمّا نزوله إلى أقلّ من ذلك –وَهُمْ أصْحابُ الكتُب- فتجده لا يقبل منهم تفردهم. وإن كان يوجد فتجد الناقد يتهمُه بالوهم أو الكذب. فكلّما علت مرتبته كلما كان الحكم بالعدل والثقة والإتقان أكبر وأولى.
القسم الثاني: أن لا يوجد أحداً نصّ على التفرد. فحكم الباحثِ عليه بالتفرد أو الغرابة أمرٌ صعبٌ, لأنه أمر غير سهلٍ أبداً, لكن إن أمعن ودقّق النظر مع موافقة أهل حديث معه, فقد يحكم بالتفرد مع أنّه قابلٌ للردّ.
(كَيْفَ نُكوِّنُ ملَكةُ فَهْمِ العِلَلْ)
سبَق الذكر أن طالب العلل لا يمكن له الوصول إلى درجة النقًّاد القدامى البتةَ, وأما طُرُق فَهْمهَما فَهِي ثَلاثٌ:
أولا: التمكّن من قواعد القَبول والردّ, فمَتَى يقبل الحديث؟ ومتى يُردّ الحديث؟ وهذه تكون في دراسةِ علمِ الحَديثِ, (حِفظاً, وفَهماً, وتَدبّراً) وهذه الدراسة لا يصحّ الاقتصار على النظري, فالاقتصار عليه لا فائدةَ كأنْ تحفظَ "ألفيةً حديثيةً".
¥