ثانياً: التمكّن مِن علمِ الجَرحِ والتعديلِ, فيعرف منزلة الراوي الدقيقة جرحاً وتعديلاً, لأنّ مراتبَ الرواةِ متفاوتةً. فهذا العلم يعينُ على معرفةِ منزلةِ الرّاوي العامة, والخاصة –عن شيخِه مثلاً-. ويدخل فيه معرفة زمن مولده ووفاته والشيوخ الذين سمع عنهم ومن لمْ يسمع منهم.
ثالثاً: قراءةُ كتبِ العللِ التطبيقية, فنأخذ "علل الدار قطني" فتقرأ فيه, فلا تقرأه كما تقرأ صحيح البخاري, بل يجبُ الوقوف مع كلّ حديثٍ, وتحاولُ معرفةُ سبب الترجيح, ومعرفةُ أو الوسائل التي اتّبعا في الترجيح, والوسائل التي اتّبعها في تتبّع طرق الروايات والاختلافات, والوسائل التي اعتمدَ عليها للخروجِ بالرأي الذي تبنَّاه, فالمسألةُ غير سهلةٍ فلا ينفع التقليد بطريقه إنما بحكمه ليسَ إِلاّ, فإذا استوعبتَ وفهمتَ في قراءةِ كتب العلل فهيَ الطريقة المثلى لتكوين الملكة رسوخاً وعمقاً.
ومِن هَذا القِسم نقولُ: طريقةُ التفقّه في كلامِهم ترجِع إلى ثلاثة أمورِ أساسية:
أولا: تصوّر الاختلافِ, وهذا إما أن يكون مجرّد القراءة تعرف وهذا بعد الممارسة الطويلة, أما في بداية الأمر يجبُ عمل " مشجَّرة الطرق ". وطريقتُها: أن تذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث (ابن عباس) ثم إن كان الحديث مداره على عكرمة تقول (عكرمة عن ابن عباس) إما إن كان رواة هذا الحديث عن ابن عباس كثُر, فتجعل لكل راو عموديّا, ثم النظر إلى أوجه الخلاف والتفارق فراو رفعه عن ابن عباس و الآخر وقفه, فتضع كل من وقف الحديث في جانب ومن رفع الحديث في جانب, ثم النظر إلى من اختلفوا على عكرمة .. وهكذا .. .
وفي الخلاف أوجه كثيرة وطرق مختلفة صعبة عائصة ليسَ هذا موضعها.
ثانياً: معرفة مراتب الرواة, في هذا الحديثِ خاصةً من حيث الجرح والتعديل, ومن هنا تبرزُ أهميّة "تحقيق كتب العلل" فالإمام في تعليله لا يذكر مرتبتهم, بل تُذكر هذا في حواشيهم, وكتاب "العلل للدار قطني" مخدومٌ خدمةً جيّدة, وكتاب "العلل لابن أبي حاتم" كذلك, فمن خدمتهم " تبيين أحوالهم من كلام الحافظ في التقريب" وإن كان هذا لا يفيد فائدة كبيرة إلا أنه يفتّح الأبواب ويبصّر حاله بالعام.
ثالثاً: فهم كلام العالم ومحاولةِ معرفةِ سبب الترجيح, فتنظر لم رجّح روايةُ فلانٍ على فلانٍ؟ لم رجّحَ الوقفَ على الوصلِ؟ وإنما يكون هذا بجمع كلام العلماء كلهم في حال الحديثِ أو الراوي, فترى يقول الناقد "فلان أشبه لأنه أحفظ" وترى أنّ هذا الترجيح إنما من سببِ حفظه القوي, ولكن ترى بعين البصيرة أن سبب مرجوحية الراوي الآخر هي المتابع عليها, فحينئذ تحكم للآخر, كيف حصلَ هذا؟ إنما هو بجمع كلام العلماء, ولولاه لقلت بالأول.
* وهذا لا تكون بمجرَّدِ قراءة واطّلاع بل يجب التدقيق والبحث, وكلما كان في بعض العلوم صعوبة, تجدُ فيه لذّة في أكبر من صعوبتها. فلا يستطاع العلم براحة الجسد كما قال يحيى بن أبي كثير, وهذا يكون في إخلاص الطالب وفي لذة الطلب, وقد تستحضر لذةَ الطلب أكثر من استحضار صدق النية, وعليهِ فكلما كان العلم أعسر وأصعب كلما كانت لذّته أدعى وأشهى.
(نَشْأةُ عِلْمِ العِلَلِ ورِجَالُه)
لمَّا كانَ هذا العِلمُ مِن أدقّ العلومِ وأغمضِها, وهو الطريق الوحيد لقطع القول في صحَّة الحديث وضعفِه, حتى إن الصحابة كان عندهم علمٌ فيه, فكان الصحابة يردّ بعضهم على بعض, وكان عندهم نقدٌ للمتن, وهذا العلمُ علمٌ فطريّ, بل هم أحرص الناس عليه لأنهم أصحاب العدالة مع توقّع وجود قلة ضبط, فالتطبيق كان موجوداً عند الصحابة لكن لم يكن كمثل من بعدهم!.
ومِن أمثلةِ تعليلِ الصحابةِ للأحاديثِ:
(1) حديث عمر لما قال "كنت أنا ورجل من الأنصار نتناوب النزولَ على النبي" فجاء ذات مرّة الأنصاري لعمرَ وأخبره أنَّ النبيَّ طلَّق نساءه, فذهب عمرُ فدخلَ على حفصة وعاتبها, ثم دخل على النَّبي وهو في مشربةٍ له فأذن له, ثمَّ كلمه وكلَّمه وتبسَّم, فلمَّا رأى ذلك عمرُ سأل النبيّ هل طلّقتَ نسائك؟ فرفع النبيّ بصرَه فقال " لا " وكبّر عمر وأخبر النَّاس, حتى عُلم من منهج عمرَ التثبّت في النقل بل التشدّد فيه.
¥