(6) مُحَاوَلةُ التَّأمَّلِ والتَّحْلِيلِ لأَسْبَابِ الخِلافِ, -وهي التي تدلّ على وجود ملكة أو عدمها في التعليل- وهناك أربعةُ صور للخلاف:
أ- أن تكون الأوجه روايات متعدّدة كلها صحيحة لا وهمَ فيه.
ب- أن لا يصحّ منها إلا وجهٌ واحد والباقي خطأ.
ج- أن يكون عدد منها صحيحا ومنها ما هو خطأ.
د- أن يصلَ اختلافها واضطرابها إلى درجةِ عدم استطاعةِ التمييزِ والترجيحِ. وهو ما يُسمَّى بـ "الاضطراب".
(7) تحتاج هذه المرحلة الأخيرةُ إلى أمور مهمّة ثلاثة:
أ- مراعاةُ علمِ الجرح والتعديل عند النظر, من تعيين الراوي, فقد يكون مبهما, ثم تعرف ومن ولادته ووفاته وسماعه وإرساله ثم درجته العامّة في الجرح والتعديل (صدوق, له أوهام) ثم مرتبته الخاصة عند العلماء ثم اصطلاحاته الخاصة إن كانت له, كالإمام مالك إذا شكّ بالوصل والإرسال أخذ .. , والحسن البصري أنه يحذف لفظ –النبيّ عليه السلام- فله حكم الرفع.
ب- محاولة تفسير سبب الاختلاف, فهل لأنها متعدّدة؟ ثم هل فيها وهم أو لا؟ هل يمكن درء الوهم؟ ومعرفة سبب الوهم تحتاج إلى قراءة طويل ومتمعّنة لعامة كتب الجرح والتعديل, لأنَّ أسبابَ الوهم لا حصرَ لها, لذا .. فإنه يلزمكُ حينئذٍ معرفةُ "قرائن الترجيح" أشهرها "كثرة العدد" و "الأحفظ والأتقن" وهكذا.
ج- النظرُ في أحكام النقَّاد وتعليلاتهم إن وُجِدَتْ, فحين دراستك لحديثٍ معيَّن فيه علل, فآخر المراحل "النظر في أحكام النقاد" هل اتفقوا في التعليل أو اختلفوا؟ فإن اتفقوا فلا مناص من أن تبحث عن السبب, ولا يحق المخالفة, وإن اختَلفوا حقّ الترْجِيح, فإنْ وجَد كلام عالمٍ واحدٍ ولم تجد له مخالفة وكانَ كلامُه صَحيحاً فلا يحق المخالفة إلا بدليلٍ معتبرٍ, واستثنوا كلامَ الإمامين البخاري ومسلم فيما صحَّحاه وفي الصحيح خاصةً, لأن الأمَّة أجمعت على قبول أحاديثهم إلا ما انتقدوا عليهما وهي يسيرة, فلو وجدتُ مدلِّساً يروي حديثاً في الصحيحين بالعنعنة وليس له رواية أخرى متًّصلة فهي محمولةٌ على الاتِّصال, فيلزَمُك الأخذُ بقولهم.
(صُورُ مَوقِفنا مِنَ الحَديثِ الَّذي فِيهِ كَلامٌ لأهْلِ العِلمِ)
1 - إن اتفقوا .. على حكم كأبي زرعة وأبي حاتم وابن المديني والبخاري وابن ابن معين والدار قطني, فلا يحلّ ردّ كلامهم, حتى إني وجدتُ لأحد علماء الحديث تصحيحاً لحديث اتفقَ على ردّه أكثر من 11 عشر عالماً, وردّ قولهم بقول: تعليلهم ليس بوجهٍ!!.
2 - إن اختلفوا .. فمن كانت عنده أهليّة الترجيح فيرجّح من أقوايل العلماء .. ومن لم تكنْ عنده أهليَّة الترجيح فلا يحلُّ له الخوضُ في هذا بل يلزمُه "التقليد" بكَلامِ حافظٍ من الحفّاظ والنقَّاد ليس غير.
3 - إن لم يجد إلا حكمَ ناقد .. ولم يجد له مخالفاً, فحينئذ " ما ظهرَ لنا فيهِ مأخذُ الحكم يحقُّ لنا أن نناقشَ هذا العالم في مأخذ حكمه " فلو قال العالم: هذا حديث منكر لأنًّ فيه فلاناً ضعيفاً وقد تفرّد في الحديث. فيبحث الباحث وينقش ويفتّش عن هذا الراوي فأجد أنَّ الراجح فيه أنّه " ثقة " ووجدت كلاما من النقّاد توثيقاً له فهنا يصحُّ لي المخالفة ... وإن لم يتبيّن لي مأخذُ الحكم من كلامِ النَّاقد فلا يحلّ ليَ المخالفة.
مِثالُه: إسنادُ ظاهره الصحة فيأتي الإمام أبو حاتم الرازي فيذكر هذا الإسناد بنفس الطريق, وأنا أعلم أن أبا حاتماً يوثّق هؤلاء الرجال كلهم لكنه يقول عندئذٍ: هذا حديثٌ منكرٌ. فلا يَحلّ ليَ المُخالفةَ, لأنّ المعطيات التي عندَه مَوجُودةٌ عندي, وأبو حاتم الرازي لا يعارضُ في أنّ ظاهر السند يقتضي الصحّة, فلم يخالف هذا الظاهر إلا بدليل آخرَ, وهو أهلٌ بالاتفاقِ أن يعرفَ ما لا أعرفُ أنا وأن يفهم من التعليل ما لا أفهمه أنا.
فأنتَ إما أن تخالف أبا حاتم الرازي فتَتهمُه بذلك, وإمّا أن توافقه وتقولُ: هو لم يخالف إلا بعلمٍ وهو أهل له, فلا شكّ أن الخيار الثاني هو الأولى, وليست المسألة مبنيةٌ على التقليد أوْ غيره بل هي مبنية على العقل بالاستدلال فيجب اختيار أقرب الأمرين.
* ومثله في مسائل الفقه: فلو جاء حديث فقهي في حكمٍ معيّنٍ, فأجد أن أحْمدَ –ومن أصوله أنّ الأمر يقتضي الوجوب- يذكر هذا الحديث ويحكم على الحديثِ بالاستحباب, فلم يخالف أحمد أصلَه إلا بدليل أو علة لا نعلمها نحن.
¥