(5) التساهل في الرواية وعدم الأخذ بالحديث, فهذا عند الرواية ورقم (2) عند التلقّي, وسببه: كسوله أثناء روايته بأن يكون في مجلس المذاكرة أو مشغولَ الذهن بأن يكون جائعاً أو مريضاً أو كثير التدريس, وهذا واقعٌ حقيقي عند المحدثين.
ب- ضبط كتابة, وأنواعُ الوَهم فيه أربعةٌ:
(1) عدم الإفادة من الكتاب, فراوٍ عنده الكتاب ولكنه متكل على حفظه, أو مفقوداً كتابه, أو ليس بين يديه, أو تُحرق كتبه, أو يعمي بعد بصره, أو يرحل فلا يحدّث من أصوله كما حصل مع معمر بن راشد.
(2) أن لا يكونَ الكتابُ صالحاً للإفادة, كأن يكون الكتاب غير مضبوط فيكتب بنقص حرف أو يبدّل كلمة عن كلمة, كما ذكروا "فلان يسمع من غير أن يقرأ ويكتب من غير ما سمع ويقرأ غير ما كتب" فهي مراحل الوهم
حتى قالوا: "لا تأخذ العلم عن صحفي" أي: صحاب الصحف. لأنها لم تكن مضبوطة ومنقوطة, خلاف هذا الزمن.
(3) أن يطرأَ على الكتاب ما يجعله غير صالح للإفادة, فالكتاب مضبوط, لكن طرأ عليه بأن يستعيره لأحد فيحرّف ويصحح فيه, أو يحترق الكتاب فيصبح يخمّن في رواياته.
(4) ضعف الاستفادةِ من الكتابِ, كأنْ يكون الكتابُ مضبوطٌ ومحفوظٌ من التغييرِ, لكنَّ القارئ لا يحسن أن يستفيدَ منه جيّداً, تجدُه يقرأُ سريعاً فلا يستوعب فهمهما ويتجاوز عنها.
(الأَدِلةُ والقَرائِنُ الَّتِي يُبنَى عَلَيهَا التَّعلِيلُ)
(1) الأّصْلُ عَدَمُ اجْتِمَاعِ الأَشْخَاصِ فِي الوَهْمِ, إذاً-الأصل أنّ المنفرد المخالِف واهمٌ- لأنَّ الصواب صورةٌ واحدةٌ, فإن اختلف الرواةُ مثلاً عن ابن سيرين في رفعه ووقفه وإرساله, فيتصوّر أن الوهم يتعدد تعدّداً لا نهايةَ له, من تغير المتن وقلبه وأحوالٍ كثيرة. لأن الاحتمالات العقلية واردة. فإن جاء رجلٌ على صورة ثم جاء آخر على الصورةِ نفسها وكذا آخر فلا يتصوّر أن أحدهم واهماً! لتوافقهم! لِذا ... قبل العلماء رواية الضعيف خفيفَ الضعيف إن جاء بنفسِ الوجه الذي رواه به الثقة. ومن القرائن في هذا: تقديم رواية العدد على رواية الواحد. ومن القرائن في هذا: تقديم الوجه الذي يشهد لمعناه وجهٌ آخر وإن كان غير موافق له تماماً.
مثَالُه: حديث قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر في قصةِ إرث الجدّة فقد رواها مالك عن الزهري عن إسحاق بن خرشة عن قبيصة عن محمد بن سلمة والمغيرة. فكلّ تلاميذ مالك رووها في وجهٍ غير هذا -يعني من غير ذكر إسحاق! - فالظاهر أنّ الصواب روايةُ الجمع, لكن جاء ابن عيينة فروى الحديث عن الزهري عن رجل عن قبيصة, فهو لم يوافق مالكاً إنما أبهم هذا الاسم, حتى أن الترمذي قال عنها: والصوابُ رواية مالك. وجاء الدار قطني وقوّى رواية مالكٍ بروايةِ ابن عيينة. فهنا وافقه في صورة الرواية فهذا مطابقٌ للقاعدة.
(2) مَا يَصْعُبُ حِفْظُه أَوْلَى أنْ يَكُونَ صَواباً, إذاً -ما يسهل حفظه أولى أن تذهبَ الأوهام إليه- وصورته: قال بعضهم "سلوك الجادة" والمعنى: أن هناك أسانيد مشهورة مثل "الزهري عن ابن المسيب عن ابن عمر" فلو أتى الراوي وقال "الزهري عن إسحاق عن قبيصة" فهذا في الغالب لا يأتي به الراوي لأنه غريب عن بقيّة الأسانيد. قال أحمد بن حنبل: "أهل مكة إذا أخطئوا قالوا: ابن المنكدر عن جابر لأنه أشهر الأسانيد عندهم. وأهل البصرة إذا أخطئوا قالوا: ثابت عن أنس لأنه أشهر الأسانيد عندهم. ومن القرائن في هذا: وجود الاسم الغريب في السند يدل على حفظ راوي, لأن غرابةِ الاسم تقتضي نسيانه. فرجل يقول "شعيب" والآخر "شعيش".
(3) قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى ضَبْطِ الرَّاوِي بِجُزءٍ مِنَ الحَدِيثِ مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ غَيرُه يَشْهَدُ عَلَى صِحَّةِ الجُزْءِ الَّذِي لَا نَجِدُ دَلِيلاً عَلَى ضَبْطِه فِيهِ. وصورته: الحديث الذي يثبت أن الراوي قد ضبط جزءاً منه هذا أولى أن يكون قد ضبطَه كاملاً, بخلاف ما يثبت من أن أحداً اختلّ في ضبط جزء من الحديث, أولى من أن يخطأ في بقيته.
مثالُه: ذكر الدار قطني اختلاف سفيان بن عيينة وحماد بن زيد في سند ومتن, فقام الدليل على صحة راوية سفيان في السند, وقام الدليل على صحّة رواية حمّاد بن زيد في السند والمتن, فالأخذ بمن أصاب في- جملة الحديث - أولى من أخْذ مَن أخْطأ في بعضه.
¥