وعلامة ذلك أن يكون في أحدهما زيادة على الآخر، أو نقص منه، أو تغيرٌ يستدل به على أنه حديث آخر، فهذا يقول علي بن المديني وغيره من أئمة الصنعة: هما حديثان بإسنادين.
وقد ذكرنا كلام ابن المديني في ذلك في باب صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلاة، وكثير من الحفاظ كالدار قطني وغيره لا يراعون ذلك، ويحكمون بخطأ أحد الإسنادين، وإن اختلف لفظ الحديثين إذا رجع إلى معنىً متقارب، وابن المديني ونحوه إنما يقولون هما حديثان بإسنادين, إذا احتمل ذلك وكان متن ذلك الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: كحديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فالإمام ابن رجبٍ اعتبر خلافاً منهجيّا بين الإمامين, والصواب عدم التفريق, ويوضّحه مثال حافل, نذكره بإيجاز:
* ذكر الدار قطني في "مسند أبي هريرة" رقم حديث (2123) في رجم المحصنة:
وسُئِلَ عَن حَدِيثِ عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ، وشِبلٍ، قام رجل، فقال: يا رَسُولَ الله، اقضِ بَينَنا بِكِتابِ الله، فَقامَ خَصمُهُ، وكانَ أَفقَهَ مِنهُ، فَقالَ: أَجَل، وائذَن لِي، إِنَّ ابنِي كانَ عَسِيفًا عَلَى هَذا، وإِنَّهُ زَنَى بِامرَأَتِهِ. الحَدِيثَ.
فَقالَ: يَروِيهِ الزُّهْرِيُّ،-إذاً الزهري هو مخرجُ الحديثِ- واختُلِفَ عَنهُ؛ فَرَواهُ ابنُ عُيَينَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ, وشِبلٍ.
وخالَفَهُ يَحيَى بنُ سَعِيدٍ الأنصارِيُّ، وصالِحُ بنُ كَيسانَ، فَرَوَوهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ، ولَم يَذكُرُوا شِبلاً. –فالخلاف بين ابن عيينة وصالح بن كيسان ذكر شبل- وَكَذَلِكَ رَواهُ مالِكُ بنُ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ –بدون ذكر شبل-.
واختُلِفَ عَنهُ؛ فَرَواهُ أَبُو عاصِمٍ، عَن مالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن زَيدِ بنِ خالِدٍ، وحدَهُ.
وَرَواهُ أَصحابُ المُوَطَّإِ –روّاة الموطّأ وهو كُثر, فمنها من الموطأ ومنها ما هو خارج الموطأ- عَن مالِكٍ، فَقالُوا فِيهِ عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ. –ذكر اثنين خلافا لعاصم الذي روى عن زيد بن خالد, فيظهر أن الذي ثبت رواية أبو هريرة وزيد بن خالد- وكذلك قال يُونُسُ بنُ يَزِيدَ، وابن جُرَيجٍ، وزمعة، وابن أبي حفصة، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق. –فهؤلاء كلهم متابعون لمالك مخالفين لابن عيينة- وكذلك قال عَبدُ الأَعلَى، عَن مَعمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. –فهذه متابع آخر غير الطريق الذي سبق فأفرد القولَ فيها- وَخالَفَهُ يَزِيدُ بنُ زُرَيعٍ، فَرَواهُ عَن مَعمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وحدَهُ. –فاختلفت رواية معمر-.
وَكَذَلِكَ رَواهُ عَمرو بنُ شُعَيبٍ، وبَكرُ بنُ وائِلٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وحدَهُ، وهُوَ مَحفُوظٌ عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ، وأَمّا ما قالَهُ ابنُ عُيَينَةَ فَلَم يُتابَع عَلَى قَولِهِ عَن شِبلٍ. –فتبيّن أنه خطأ من ابن عيينه, حتى إنه وهّمه في السُّنن- وَرَواهُ الماجُشُونُ، وصالِحُ بنُ كَيسانَ،، وابن أَخِي الزُّهْرِيِّ، وجَماعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن زَيدِ بنِ خالِدٍ وحدَهُ مُختَصَرًا.
وَرَواهُ لَيثُ بنُ سَعدٍ، عَن عُقَيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابنِ المُسَيَّب، عَن أَبِي هُرَيرةَ، ولَم يُتابَع عَلَيهِ، ولَعَلَّهُ حَدِيثٌ آخَرُ حَفِظَهُ عُقَيلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، والله أَعلَم انتهىُ.
فحكم أنه إسناد آخرَ تماماً, لا علاقة بالحديث مع أنَّ الموضوع واحدٌ وهو "حدّ الزنى" فاعتبر الدار قطني أنّه حديثٌ آخر, ومع العلم أنّ البخاري روى من طريق عبيد الله عن أبي هريرة وزيد من خالد فذكر الحديث ... وروى حديثاً أخر من طريق ليث بن سعد عن عقيل عن الزهري عن ابن المسيّب عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قضى فيمن زَنَى ولم يحصن بنفيِ عام وإقامة الحدّ عليه. فانظر كيف أن الموضوع واحد ولكن اختلف اللفظ اختلافاً بيّناً, فذكرَه أبو هريرة مختصرا, فاعتبره الدار قطني حديثين فالذي قاله ابن رجب –رحمه الله- غلطٌ بيّن.
¥