الأمر الثاني: أنَّه خلاصةُ ونهايةُ علومِ الحديثِ بأكملِها, مِن قواعدَ وضوابطَ وشروطٍ وأنوعٍ (المدلس, المدرج, المرسل, الجرح والتعديل النظري والتطبيقي) وغيرِهَا, ولا تظهرُ فائدةُ هذه العلومِ إلاَّ في علمِ "عللِ الحديثِ". قال أبو بكرٍ الحازمي الهمداني (584هـ) في مقدِّمةِ "عجالة المبتدي وفضالة المنتهي في النسب":علم الحديثِ أكثر من مائة فنِّ كل فن منها لو أمضى الطالب فيه عمره ما بلغ نهايتها اهـ.
(3) أنَّّه لا يَحِقُّ لأحدٍ الخوضَ فيه, ولا يلجأَ نحارَه, بل لا يجرأ إلا قليلُ عقلٍ أنْ يتكلمَ فيه, ما لم يكنْ مِنْ أهْلِ الاختصاصِ الكاملِ فيه, لأنًّه عميقٌ جداً, ولِهذَا لَمْ يخُضْ غمارَ هذا العلمِ منَ العلماءِ السَّابقينَ إلا القِلال, فَتجدُ آلافِ الرجالِ من الثقاتِ والحفَّاظِ, ولكن مع قلّةٍ فيهم لا يصلُونَ إلى المئاتِ. ومِمَّا يدلّل على هذا أنَّه: سَأَلَ أبن أبي حاتم الرازي (324هـ) أباه أبو حاتم الرازي (277هـ) من أئمة هذا الشأن؟ فذكر له أحمد بن حنبل (241هـ) ويحيى بن معين (233هـ) وأبو زرعة الرازي (264هـ) وعليّ بن المديني (234هـ) والبخاري (256هـ) وغيرهم. ثم سأله بعد وفاة أبي زرعة –وهو آخرهم وفاةً- فقال: والله لا أعرف أحدا من البلدانِ يعرف شيئا في هذا الشأن. فسأله عن محمد بن مسلم بن وارة؟ فقال: عنده طَرَفٌ منهُ. فهذا في زمِنِهِ, القرن الثالث هجري, أي العصر الذهبي, فما تقول في زَمنِ من بعدَه؟ وتجِدُ أنَّ من خاضَ في غماره من المتقدمين هم حفاظٌ جهابذةٌ أهل العملِ والتقوى, فكبر بذلكَ مزيةً وفضلاً.
(4) أنَّه العِلمُ الوَحيدُ الَّذي أوْصلَ عُلماءَ الحَديثِ إلى القَطْعِ بصِحَّة الحَديثِ وضَعفِه, فلا يمكنُ لهم ولا لغيرهم أن يصِلوا إلى درجةِ اليقينِ بغيرِ الاعتماد عليه. فلا يمكنُ الوصولُ إِلى القَطْعِ به بِمَعرِفَةِ وُجُودِ شُروطِ الحَديثِ الصَّحِيحِ, لأنَّ الخَطأ والوَهم واقعٌ مِنْ جَميعِ الطَّبقَاتِ (حفَّاظاً, ورُواةً, ونقَّاداً) وهذا لا يَخْتلِفُ فيهِ أحدٌ.
فالحديثُ الموضوعُ لا يُكتفى في الحكم بوضْعِهِ بمجرَّد النَّظرِ على السند والحكمِ عليهِ! , لأنَّ الكذَّابَ قد يصدُق, فبمَ يتم؟ يتمُّ بـ "القَرَائِنْ" التِي تعينُ وتوصلُ للحكم عليه, وقد تكون خفيَّة وقد تكون ظاهرةً, كحديث "قُدِّس العدسُ على لسانِ سبعين نبيّا" وحديثُ ابن عباس في "الإسراء والمعراج" الذي يطبَعُ ويوزَّع وهو مليءٌ بالوضعِ والنقدِ, وغيرِهَا من الأَحادِيثِ السمجَةِ, فمن تكلّم بالحَديثِ دُونَ مَعرفةٍ بعِلْم العلل فاضربْ بكَلامِهِ عرضَ الحائطِ بلا تردُّدٍ, فيكفي بعلمِ العِلَلِ شرفاً أنَّه يعطِي الباحثَ اليقين في الحكمِ على صحَّتِهِ وردِّهِ.
(5) أنَّه هُوَ الَّذَي يعيدُ إلى علوم السنَّة هيبتَها ومكانتَها عندَ المُسْلِمينَ, وخاصةً في العصْرِ الحَدِيثِ, لأنَّه وُجدَ أنَاسٌ فِي هذا الزَّمانِ يتسلَّقون على العِلْمِ بلْ يَتَطاوَلُونَ على العُلُومِ الشَّرعِيَّة, والمشكلةُ أنَّنا نجدُ بعضَ الفُضَلاءِ مِنَ العلماءِ وطلبةِ العلمِ يسانِدون –من غَير أن يشْعُروا- فِي إشَاعَةِ هذا البلاءِ عن طَرِيقِِ إِيهَامِ النَّاسِ أنَّ العلومَ الشرعيَّةَ سهلةٌ ويسيرةٌ, وأنَّه بإمكانِ كلِّ شخصٍ أن يتعلّمهَا, فتَرَى بَعْضُهمْ -في هذا الزمانِ الذي صارَ في كلِّ أسبوعٍ يصدرُ كتاباً- يقول: إسناده حسن أو حديث ضعيف, ويُنهي الحكم به. والسبَبُ: عدمُ مَعْرفَتِهِم بقِيمَةِ هذا العلم, وعظيم شأنه, فلو عرفوه حقَّ المعْرفةِ للجمهم ذلك على هذا التجرّأْ, الَّذي لا يحْمدُهُ أحد من القلاءِ لأنها أدت إلى عواقبَ وخمية.
(6) أنّه الدَّليلُ القاطعُ عَلَى أنَّ المحدِّثين أعرفُ بكل وسيلةٍ صحيحةٍ لنقدِ السنَّة النبويَّةِ, فلا يمكنُ أن يُخطرَ على البالِ منهجٌ صحيحٌ لنقْدِ المَرْويَّاتِ إلاَّ والمحدِّثِينَ أعْرَف به, وقدْ طبًّقوهُ في الوَاقعِ العَمَلِيِّ, فلنْ تَجِدَ منهجاً -تظنُّه صحيحاً- لم يسْلكْه نقَّادُ الحديثِ إلاَّ كانَ خاطئاً, وهي قاعدة سلباً وإيجاباً, فلن تقترحَ في التَّصْحِِيحِ والتَّضعيفِ منهجاً هو غَيرُ موْجُودٍ عِندَ المحدِّثينَ, ونطبِّقْ هذا على الوَاقعِ العَمَلِي: يقولون: يجبُ أن نعرضَ صحيح البخاري وصحيح مسلم على القرآن وعلى العقلِ وعلى
¥