فاستخدَمَ هذا الكتاب ابن المديني في تعليلِ أحَادِيثِ أبِي هُرَيرَة. فيقول "الصوابُ الوقف" أو "الصواب الرفع" فأنَّى لَنَا أن يَتَوفَّر لَنَا مِثْلَ هذا؟ فالقضيةُ ليسَتْ هِيَ جَمْعُ الطرق ويكفِي! -كوناً عن الفَهمِ والدقِّةِ والحِفظِ ِوالمَلكَةِ- كما هو الواقعُ في هَذَا الزمن.
(لمَ ندْرسُ عِلمَ العِلَلْ؟)
أولاً / مُحَاوَلةُ فَهْمِ كَلامِ العلَماءِ فِي التَّعْلِيلِ, وَهِيَ أكْثرُ الفَوَائِدِ المرجوُّةِ شُيوعاً.
ثانياً / التَّرْجِيحُ بيْنَ أقْوالِهِمْ إذا اخْتَلَفوا, فإمَام يقول " الصوابُ الإرسال " وإمَام يقول " الصواب الرفع " فأنظر إلى أدلة الفريقين, وأحاول استيعاب سبب اختلافهم, ومن ثمَّ أرجِّح وأصوِّب, وهَذِهِ تَحْتَاجُ إلَى عِلمٍ جمٍّ وفهمٍ حاقبٍ ودقَّةٍ متناهِيةٍ.
ثالثاً / اكْتِشافُ العلِّةِ فيما لم نَجدْ لهُمْ فِيهِ كَلاماً, فقدْ أَقِفُ عَلَى مرويَّاتٍ لا أجِدُ لأحَدٍ مِن المتقدِّمينَ الحُكمَ عَلَيْهَا, لا قَبولاَ ولا رَداً, فيحقُّ لِمَنْ لَهُ معرفة بالعلمٍ أن يَجمَعَ طُرق الحديث ويحكم عَلَيه على ما تَوصَّل إليه بحثُهُ, وهذا وقع للمتَأخِّرينَ بِكَثرةٍ كالإمَامِ ابنُ حَجَر العَسقلانِيُّ والإِمام ناصُرُ الدِّينِ الألبَانيِّ.
مَسْألةٌ: هل يَحِقُّ لأحَدٍ مِنَ المتَأخِّرينَ أن يردّ الحديث بالشذوذ أو التفرد استقْلالاً؟
أقولُ: لئِنْ كَانَ عِلُمُ العلل من أعمقِ علومِ الحَدِيثِ فردُّ الحديثِ بالتَّفرُّدِ منْ أعْمِق عِلم العِلَل, فَهُو النِّهَايةُ العُظْمَى فِي التَّعلِيلِ, لأنه في غاية الصُّعوبَةِ والعُسْرِ, ويحتاجُ إلى درايةٍ تامةٍ وضوابط مهمّة. فإن كنتَ سابقاً من إمام فهذا سهل وهيّن فتوافقه. والأحاديثُ الَّتِي رُدَّتْ بالتَّفَردِ عَلَى ثلاثةِ أقْسَام:
1 - أحَادِيث لا نَجِدُ فيه إلا حُكماً بالردّ من الأئمة السَّابقينَ, فَهُوَ مردودٌ بالتَّفرد, فلا يصحح بوجه.
2 - أحَاديث حصل فيها خلاف من المتَقدِّمين, هذا يَردّ بالتفرد وهذا يَردّ بالقبول.
مثاله: حديثُ: عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال "كان النبي إذا انتصفَ شعبان لمْ يَصُم" وهذه السلسة من أقلّ مراتب الحسن, فالحاصل أنّ عامة المتقدمين على إنكارِ الحَدِيثِ, إلاَّ أنَّ التِّرمذيَّ قَبِلَ الحَدِيث, فنقولُ: يمكن لمن عِندَه أهليةٌ وممارسةٌ في الحديثِ أنْ يرجّح بينَ كلامِ النُّقَّادِ!.
3 - أحاديثُ لم توجد لأحد من المتقدمين رداً بالنكارة, ولَهَا حَالتَانِ:
أ- أن يكونَ الحديث الفرد صحَّحه بعضُ أئِمَّةِ النَّقدِ, ولم يُوجَدْ لِغَيرُهِ الحكمُ بالنَّكارة أوِ التَّفرّدِ. فإنه يَلزمُني اتَّباع هذا الإمامِ وعدم مُخَالفته, لأنَّ قضيةَ الرد بالتفرُّدِ مرتبطة بالملكة التي عندَ الشخصِ, ولا شَكَّ أنَّ آحادَ الحفاظ في ذلك الزمانِ أنهم أعلمُ بالسنَّةِ وأكثرُ ملكةً من عامَّةِ المُتأخِّرينَ.
مثالُه: حديثُ: أبي أمامة الباهلة "من قرأ آية الكرسي دُبُرَ كلِّ صلاةٍ لم يكنْ بينَهَ وبينَ الجنَّةِ إلاَّ أنْ يموتَ" هذا الحديث من رواية محمد بن حمير عن محمد بن زياد عن أبي أمامة الباهلي, وتفرَّدَ به مُحَمد بْنُ حميرَ, وَهُوَ ثقةٌ أو صدوق, وظاهرُ الإسنادِ من الصِّحةِ, والحديث صحَّحهُ ابن حبَّان ولم يتعرّض عليه أحدٌ من المتقدمين فيما يُعلم, إلا أنَّ ابن الجوزي –وهو من المتأخرين- وضعه في الموضوعات لأنَّهُ قَالَ: محمد بن حمير ضعيفُ الحديث. وهذا خطأٌ من ابن الجوزي, فابن حميرَ صدوق ويحتملُ تفرُّدُه كما نصَّ على ذلكَ الدار قطني في " الأفراد " والطبراني في " الأوسط " فالوَاجِبُ التزامُ حكْم ابن حبَّانَ والحُكْمُ بتَحسِينِهِ إنْ لمْ نَقُل بتَصْحِيحِهِ, ثمَّ الحديثُ في فضائلِ الأعمالِ ليسَ أنَّهُ أصلٌ, ولذا نجد من العاصِرِينَ مِن يُضعِّفه بالتَّفرُّدِ, ولمْ يَسْبِقْهُم في ذلكَ أَحَد!!.
ب- أن لا يوجد في الحديث الفرد أحد قَبِله ولا أعلَّه من المتِّقدِّمينَ. وَهِيَ قِسْمَانِ:
¥