القسم الأول: أن يَكونَ أحدُ الأئمة قد نصَّ على أحد الرواة بالتفرد في حديثٍ, وهذا لا يستطيعُهُ إلاَّ الأئمةُ النُّقَّادِ, وهذا ليسَ بتحكُّمٍ, لأنَّكَ عندما تحكمُ عليهِ بالغرابةِ –المطلقة أو النسبية- فبهذا ادَّعاءٌ أنَّك اطلعتَ على جميعِ كتبِ أسانيدِ السنَّةِ النَّبوية؟ لا من جهةِ أننا لَسْنَا بحفَّاظٍ أو أنَّ الكتبَ لم تطبع كلَّها فلم أقف على مظنَّتِهِ؟ بل لأنَّ كثيرا من الأسانيدِ قدْ فُقدِتْ معَ ما فُقِدَ من كتبِ السنَّةِ, وهذا واقعٌ فقد قال أبو داود: سبرتُ ثمانينَ ألفَ حديث لابنِ وهبٍ. فالحُكمِ بالغرابةِ من المتأخرينَ عسرٌ جداً ولا ينبغِي, وهو قولُ الإمام السيوطي –رحمه الله-.
وفي ردِّ الحديثِ بالغَرَابةِ يُقْبَلُ بِثَلاثَةِ أُمُورٍ:
* النصُّ على الغرابة مِنْ أحدٍ من النّقّادِ.
* أنْ يكونَ متأهلا متمكِّناً فِي الحَديثِ, ولو فتح هذا الباب على مصراعيه كان من أوسع الباب لهدمٌ للسنَّة, فيأتي ويردُّ حديث " إنما الأعمال بالنيات .... " ويقولُ: هو باتِّفاقِ المحدِّثينَ أنه غريبٌ!!.
* قُوةُ القَرَائِنِ الدَّالةِ عَلَى الخَطَأِ وَالوَهْمِ. وهُنَّ أَرْبَعٌ:
1 - النَّظرُ إلَى دَرَجةِ الراوِي مِنَ الضَّبْطِ والإِتقَانِ, فالإتقانُ والضبطُ تكونُ نسبةٌ مئوية فلانٌ (50%) وفلان (70%) وهكذا ... فلو حكمتُ على فلانٍ (75%) من ناحية ضبطه .. ثمَّ ..
2 - النَّظَرُ إلَى حَدِيثَهِ مَا هَيَ دَرَجَةُ التَّفرُّد؟ , لأنه درجات –سواء أكانَ التَّفردُ مُطْلقاً أو نِسْبياً-؟
مِثَالُهُ: حَدِيثُ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" فَدَرَجَةُ الغَرَابةِ فِيهِ كَبِيرةٌ جداً, لكن روَّاتُهُ هم قمةٌ في الضَّبطِ والإِتْقَانِ, وهُمْ: يَحيَى بن سَعِيدٍ الأنصَارِي ومُحمَّدُ بنُ إبراهيم التميمي عنه وعلقَمةُ بن وقّاص الليثيّ عنه وعمر بن الخطاب عنه.
وهذا الحديث أصلٌ من أصول الإسلام, فالرجال الذين تفرّدوا في هذا الحديث عالية جداً, وأجْمَعَ العُلمَاءُ عَلَى تصْحِيحِ الحَدِيثِ لأَنَّ الرِّجالَ المتفرَّد بهم من القِمَّة وهيَ شهادةٌ لهم, وهذا الحَدِيث ليْسَ كحديث "لا نكاحَ إلاَّ بِوَليٍّ" مع أنَّ المسألتان من القضايا التي تعمُّ به البلوى والأول أكثرُ, أو حديث "من قرأ آية الكرسي ... " وهذا أقل الأحاديثِ أهميَّة إذ تَضْعِيفُهُ لا يَنقصُ شَيئاً مِنَ الدِّينِ, فَلا تَعمُّ بهِ البَلوَى, فالتَّفرُّد هنا ليسَ كَحَديث " لا نكاح .. " و كَحَديث "إنما الأعمال ... " فالتفرّد درجاتٌ متفاوتةٌ. والمَسْأَلةُ فِي ذَلكَ لَيسَتْ بالتَّشهِّي, هذا الإمامُ أحمد –رحمه الله-يقول: عمرُو بْنُ شُعَيبٍ عَنْ أَبِيهِ عن جدِّهِ رُبَّما احتَجَّ بِهِ المُحدِّثُونَ وربَّمَا لمْ يَحْتَجُّوا بِهِ.
3 - النَّظَرُ إِلَى دَرَجَةِ هَذَا الرَّاوِي فِي هَذا الشَّيْخِ خَاصَّةً, فالعلماءُ نَظَرُوا إِلَى المُكثرينَ مِنَ الرِّاويةَ مِنَ المُحدِّثينَ, كالزُّهرِي وعُرْوةَ ونَافِع وابْنُ سيرينَ وقَتَادَةَ, وقسَّموا تَلامِذَتهِم عَلَى طبقاتٍ مِنْ ناحية الأتقن, فأولاً: الحفاظ الكبار والذين اشتدت ملازمتهم لهذا العالم. وثانيا: المُتقِنِينَ مِنَ الحفَّاظِ دُونَ المُلازَمَةِ. وهكذا ... إلى أنْ يَصِلُوا التَّلامِيذ الصَّدُوقِينَ ثمَّ الضُّعَفاءُ .. الخ. –وهذه أحد وجهيْ علم الطبقات قد اعْتَنَى بِهِ المُحدِّثُونَ كَثِيراً كالنَّسائي-.
4 - النظر إلى طبقة الراوي من جهة الزمن, هل هو من كبار التابعين أو أواسطهم أو صغارهم, هل من التابعين أو أتباعهم, وكلما علت طبقة الرجل كلما كان ذلك أدعى لتفرده, فقَبول تفرّد التابعي الكبير أولى وأقوى من تفرّد التابعيّ الصغير, وقبول تفرّد صغار التابعين أولى من كبار أتباع التابعين. ثم نصل إلى صغار أتباع التابعين فنجد أن قبول التفرد منهم محتمل, أمّا نزوله إلى أقلّ من ذلك –وَهُمْ أصْحابُ الكتُب- فتجده لا يقبل منهم تفردهم. وإن كان يوجد فتجد الناقد يتهمُه بالوهم أو الكذب. فكلّما علت مرتبته كلما كان الحكم بالعدل والثقة والإتقان أكبر وأولى.
¥