ثالثاً: فهمُ كلامِ العالمِ ومحاولةِ معرفةِ سبَب التَّرجِيحِ, فتنظر لم رجَّح روايةُ فلانٍ علَى فُلانٍ؟ لمَ رجَّحَ الوقفَ عَلى الوصْلِ؟ وإنما يكون هذا بجَمْعِ كلامِ العُلماءِ كلُّهم فِي حالِ الحَديثِ أو الرَّاوي, فتَرَى يقولُ الناقد "فلانٌ أشبهُ لأنَّه أحْفظ" وترى أنَّ هَذا التَّرجيح إنمَا مِنْ سببِ حفظهِ القويِّ, ولكن ترَى بعَينِ البَصِيرَةِ أنَّ سببَ مرجُوحِيَّة الرَّاوِي الآخر هِيَ المتَابع عَليهْا, فحينئذ تحكُمُ للآخَرِ, كيْفَ حَصَلَ هذا؟ إنِّما هو بِجمْعِ كَلامِ العُلمَاءِ, وَلولاهُ لقلْت بِالأوَّلِ.
* وهذه لا تكُونُ بمجَرَّدِ قراءةٍ واطِّلاعٍ بل يَجبُ التَّدقِيق والبَحْث, وكلَّما كَانَ فِي بعضِ العُلومِ صُعُوبة, تَجدُ فِيه لذَّة فِي أكْبَر من صعوبتِهَا. فلا يستطاع العلم براحة الجسد كما قال يحيى بن أبي كثير, وهذا يكون في إخلاص الطالب وفي لذة الطلب, وقد تستحضر لذةَ الطلب أكثر من استحضار صدق النية, فتتشوًّقُ إلى أن تخرِّجَ هذا الحديث وتبيِّنَ أحوالَ الرِّجالِ وطُرُقه, وعليهِ فكلَّما كَانَ العلمُ أعسرُ وأصْعبُ كلَّما كانتْ لذَّته أدْعَى وأَشْهَى.
(نَشْأةُ عِلْمِ العِلَلِ ورِجَالُه)
لمَّا كانَ هَذا العِلمُ مِن أدقِّ العُلُومِ وأَغْمَضِِها, وهُوَ الطَّريقُ الوَحيدُ لقَطْعِ القَوْلِ فِي صِحَّة الحَدِيثِ وضَعْفِهِ, حتًّى إنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عِنْدَهم علمٌ فيه, فكان الصَّحَابَةُ يَردُّ بعضُهُم عَلَى بَعْضٍ, وكَانَ عِنْدَهُمْ نَقدٌ للمَتْنِ, ومَعْرِفةٌ بأَصْلِ هَذا العِلْمِ, وهَذا العِلمُ " علمٌ فطريٌّ " , بل هم أحرص الناس عليه لأنَّهمْ أصْحَاب العدالة مع توقّع وجودِ قلةِ ضَبْطٍ, فالتَّطْبِيقُ كَانَ مُرَاعىً عِنْدَ الصَّحَابَةِ لكِنْ لمْ يَكنْ كِمِثْلِ مَن بَعْدِهِم! , ولَكِن لم يكُنْ عندهُمْ أسبابُ وهمٍ كما قدْ وُجِدَتْ عِندَ مَنْ بَعْدِهمْ.
ومِن أمثلةِ تعليلِ الصحابةِ للأحاديثِ:
(1) حديثُ عَمَر بنُ الخطَّابِ المَشهُورُ لما قال "كنت أنا ورجل من الأنصار نتناوب النزولَ على النبي" فجاء ذات مرّة الأنصاري لعمرَ وأخبره أنَّ النبيَّ طلَّق نساءه, فذهب عمرُ فدخلَ على حفصةَ وعاتبها, ثم دخل على النَّبي وهو في مشربةٍ له فأذن له, ثمَّ كلَّمهُ وكلَّمهُ وتبسَّم, فلمَّا رأى ذلكَ عُمَرُ سأل النبيّ هل طلَّقْتَ نسائك؟ فرفع النبيّ بصرَه فقال " لا " وكبّر عمر وأخبرَ النَّاس, فكانَ هذا منهجُهُ بعدَ وفاةِ النبيِّ –عليه السلام- حتى عُلم من منهج عمرَ التثبّت في النقل بل التشدّد فيه, حتى إن الحافظ الذهبيّ يقول في "تذكرة الحفّاظ": وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل اهـ.
(2) ما حصل مع أبي موسى في حديث "الإستئذان" وهدّده بضربِهِ إن لم يأتِ بشَاهد يشهدُ عَلَى حَدِيثِهِ مع أنَّ عمر ولاّه, وهو من العلماء الكبار, ولكن اسْتَغْرَبَ عمرُ حديثاً لم يكن يعلمه وهو من الأمُورِ الواقعيّة العمليّة, ثم شهد معه أبو سعيد الخدري –وكانَ أصغرَ القومِ-.
ولهذا كانَ مُعَاوية يخطب الناسُ عَلَى المِنْبَرِ يقول " أيَّها النّاسُ لا تحدُّثوا إلاَّ بِحَدِيثٍ كَانَ يُذكَر في زمن عمر فإنه كان يخيف الناس بالله عزوجل".
(3) الأحاديثُ التي انتقدتها عائشة كثيرة وألَّّفَ الزركشي "الإجَابةُ فيما استدركته عائشة على الصحابة" وكذلكَ " ما ردَّته عائشة على الصحابة" لأبي منصورٍ البغدادي. وَمِنْهَا:
أ- قالَ ابنُ عُمَرَ "إن الميّت ليعذَّب ببعض بكاء أهله عليه" فلما سمعته عائشة قالت "أمَا إنَّه لم يكْذِب, إنما نَسيَ أو أخطأ" إنما مرّ النبي على يهوديّة يبكى عليها أهلها فقال "إن أهلها يبكون عليها, وإنَّها لتعذّب في قبرها" وجاءت رواية "قالت عائشة حسبكم القرآن {ألاَّ تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ". فعائشة لم تنزِّل مِنِ ابْنِ عمر عَدَالَته, إنما خطّأته أو وَسَمَتهُ بالنسيان, ووضّحت عائشة أن الميّت الكافر ببكاء أهله يُعذَّب, وفيهُ: عرضُ عائشةَ -رضيَ الله عنها- على القرآنِ.
¥