مِثالُهُ: إسنادُ ظاهره الصحة فيأتي الإمَامُ أبُو حاتمٍ الرَّازِي فيذكر هذا الإسنادَ بِنفْسِ الطَّريق, وأنا أعلم أن أبا حاتمٍ يوثّق هؤلاءِ الرجال كلهم لكنَّهُ يقول عندئذٍ: هذا حَديثٌ منكرٌ. فلا يَحلّ ليَ المُخالفةَ, لأنَّ المُعطِيات التِّي عندَه مَوجُودةٌ عندِي, وأبو حاتم الرازي لا يعارضُ في أنَّ ظَاهر السَّندِ يقتضي الصِّحَّةِ, فلم يخالف هذا الظاهر إلاَّ بدليلٍ آخرَ, وهو أهلٌ بالاتفاقِ أن يعرفَ ما لا أعرفُ أنا وأن يفْهَمَ مِن التعليل ما لا أفهمه أنا.
فأنتَ إما أن تخالف أبا حاتم الرازيفتَتهمُه بذلكَ, وإمّا أن توافقه وتقولُ: هو لم يخالف إلا بعْلمٍ وهو أهل على أنْ يطَّلِعَ ما لمْ يطَّلِعْ عليهِ, فلا شكّ أن الخيار الثاني هو الأولى, فيجب اختيار أقربُ الأمْرَين. وليستِ المسألة مبنيةٌ على التقليد الذي هو مجرَّد التقديسِ والتعظيمِ, بل هي مبنية على العقل بالاستدلال ومعرفة الفروق العلمية بيننا وبينَ أولئكَ العلماء, فلم نطلِق القولَ بالتَّقليدِ ولَمْ نغلقِِ القولَ بالتَّقليدِ, فكلُّ مسألةٍ لا يُدركُ فيها الدَّليلُ فصاحبُهُ "عاميٌ" لأنَّه على الراجِحِ أنَّ " الاجتهاد يتجزّأُ ".
*ومثله في مسائل الفقه: فلو جاء حديثٌ فقهيٌ فِي حكمٍ معيَّنٍ, فأجد أن الإمامَ أحْمدَ –ومن أصوله أنَّ الأمر يقتضي الوجوب- يذكر هذا الحديثِ الآمرِ. ويحكم على الحديثِ بالاستحبابِ, فلم يُخَالفْ أحمد أصلَه إلا بدليلٍ وجدَهُ أو علَّةٍ لا نعلمها نَحنُ.
* ومن هنُا ينبغِي لنا الحِرص الشَّديد في البحثِ والوقوفِ عن أحكامِ وأقوالِ النقَّاد, وهذا متوفِّر في هذا الزمن, فما بقيَ ممًّا يهمُّنا كثيراً إلا بقيَّةً من "مسندِ البزَّار" وأجزاءً من "العلل للدار قطني" ومعَ ذلكَ فلا يُعذر طالبُ العلمِ حتًّى في البحث عن هَذِهِ المَخْطُوطَاتِ.
فعلى ذلك قبل الحكم على الحديث يجب النظر في كُتُبِ العِلَلِ كلِّها, فإن وافق أو خالف الحكم فإنه يعتبر نفسه مقصّراً أمام هؤلاء الجهابذة وكيفية التصدِّي لَهُم.
وقال الذهبي عن راوٍ "مجهول" نقلاً, فلامه الحافظ ابن حجر بقوله هذا, وعدم نسبته للإمام الذي قال ذلك وهو "العقيلي". وقال: هذا التصرُّف ليس بجيد فإن النفْسَ إلَى كَلامِ المُتقدِّمينَ أمْيلُ وأشدُّ ركوناً. فانظر إلى كلام ابن حجر في مقابلة الحكم بأنه مجهول لا أكثر. أي: لا يُعرف حاله. مع أنّ الذهبي بمنزلةِ ابن معين من المتأخرين لأنه إمامٌ ناقدٌ ولمْ يكنِ الحافظ حاملاً على الذهبي فقدْ (شرب الإمام ابن حجر ماء زمزمَ حتَّى ينالَ حفظ الذهبي) رحمهما اللهُ, ومِمَّا يؤسِفُ في حَالِ المُتأخِّرينَ تقصيرُهُم في ذلك, فكانَ الشيخ الألباني –رحمه الله- لم يعز إلى "علل الدار قطني" كما يعزو إلى الإمام ابن أبي حاتمٍ الرازي, معَ أنَّ الشيخَ كانَ يتوفَّرُ له من المخْطوطَاتِ ما لا يَتوَفَّرُ لغيْرِهِ, وهذهِ أحدُ أوجُهِ الخَللِ التي تَدخُلْ على الشيخ الإمام الألباني –رحمه الله- وأنا فوق من أن يحمِلَ على الشَّيخِ, لكنْ هذا خطأ منهجيُّ ولا بدَّ من التنبيهِ عليهِ –رحمه الله-, ولا يقتضِي هَذا التنزيلُ من مقامِهِ.
(أَسْبَابُ العِلَلْ الخَفيًّةِ)
أسْبَابُ العِلَلِ الخفيَّة قِسْمان: بِعمْدٍ وبَغَيرِ عَمْدٍ.
* بِعَمْدٍ: كالتًّدلِيسِ, فيتعمَّد إسقاطُ الرَّاوي, ويَشمل كلاهما ما لو رَوَى حديثاً بالمعنى لا باللفظ أو اختصره فأخطأَ, فهو من وجهٍ تعمد وهو: الاختصارُ والرِِّواية بالمعنى, ومن وجهٍ من غيرِ تعمُّدٍ وهو: عدمُ عِلْمِه بغلَطِهِ وعَدمِ تَوقُّعِهِ ذَلكَ, ومن هذا يقاربُ التدليسِ, إذ إنَّ المدلِّسَ لا يقصِدُ الكذِبَ.
* بِغَيْرِ عَمْدٍ: وينقسم إلى قسمين:
أ- ضبط صدر, وأنواعُ الوَهْمِ فِيهِ على مراتب خمس:
(1) النِّسْيَانُ, ومعناهُ: أنَّه كان حافظاً للحديث ورواه على الوَجْه الصواب ثم نسيهُ. وهو قسمين:
أ- نسيانٌ خَاصٌ, فينسى الثِّقة فِي حديث واحدٍ, ويكون متمكِّناً من بقية الأحاديث. ب- نِسْيانٌ عامٌ, فينسى كثيراً من حديثه, وهو ما يقع من "المختلط" –ما كان خَطَؤه أكْثر مِنْ صَوَابه- فقد يَنسَاهُ بالكلِّيةِ أو يخلِّطْ فِي حَدِيثهِ.
¥