فالعجب من رمز السيوطي لحسنه كما نقله المناوي في "الفيض " ثم تبناه في"التيسير "! وأعجب منه قول العزيزي: وهو حديث صحيح " كما نقله شارح"الموافقات" (2/ 384) فإن الحديث مع هذا الضعف الذي في إسناده يعارضه حديث أبي هريرة في "الصحيحين " وغيرهما أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأغلظ له، فهم أصحابه به، فقال: دعوه ; فإن لصاحب الحق مقالا، اشتروا له بعيرا فأعطوه "، قالوا: إنا نجد له سنا أفضل من سنه، قال: اشتروه، فأعطوه إياه ; فإن خيركم أحسنكم قضاء. وأحاديث زيادته صلى الله عليه وسلم في الوفاء وحثه على ذلك كثيرة مستفيضة أخرجها البيهقي (5/ 351، 352) وبعضها في "صحيح البخاري.
ففي هذه الأحاديث إقراره صلى الله عليه وسلم للدائن على أخذ الزيادة التي قدمها
إليه المدين باختياره، وحض المدين على الزيادة في الوفاء، وقد أمر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه. وهو مخرج في "الصحيحة" (254.ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية بحثا حول هذا الحديث في "إقامة الدليل على إبطال التحليل" (ص 127، 128) ج3 من الفتاوي ذهب فيه إلى أن الحديث حديث حسن
. وأن راويه عن أنس قال: إنما هو، والله أعلم، يحيى بن يزيد الهنائي، فلعل كنية أبيه أبو إسحاق وهو ثقة من رجال مسلم، قال: وعتبة بن أبي حميد
معروف بالرواية عن الهنائي، قال فيه أبو حاتم: هو صالح الحديث، وأبو حاتم من أشد المزكين شرطا في التعديل، وقد روى عن الإمام أحمد أنه قال: هو ضعيف
ليس بالقوي، لكن هذه العبارة يقصد بها أنه ممن ليس يصحح حديثه، بل هو ممن
يحسن حديثه، وقد كانوا يسمون حديث مثل هذا ضعيفا ويحتجون به لأنه حسن، إذ لم يكن الحديث إذ ذاك مقسوما إلا إلى صحيح وضعيف، وفي مثله يقول الإمام أحمد: الحديث الضعيف خير من القياس. يعني الذي لم يقو قوة الصحيح، مع أن مخرجه
حسن. وإسماعيل بن عياش حافظ ثقة في حديثه عن الشاميين وغيرهم، وإنما يضعف
حديثه عن غيرهم نظر، وهذا الرجل بصري الأصل.
قلت: وفي هذا الكلام ملاحظات، أهمها قوله: إن حديث إسماعيل صحيح عن الشاميين وغيرهم، وإنما يضعف حديثه عن الحجازيين فقط. وهذا عندي خطأ والصواب العكس تماما، أعني حديثه عن الشاميين فقط صحيح وعن
غيرهم من الحجازيين والعراقيين ضعيف وهو ما صرحت به عبارات الأئمة بعضهم
بصريح كلامهم وبعضهم بعمومه فقال ابن معين في رواية مضر بن محمد الأسدي عنه: إذا حدث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم، وإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شئت.
وقال أحمد: هو في الشاميين أحسن حالا مما روى عن المدينيين وغيرهم. ونحوه عن أبي داود. وقال ابن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام، فأما ما روى عن غير أهل الشام ففيه
ضعف. وفي رواية ابنه عبد الله عنه: خلط في حديثه عن أهل العراق.
وقال ابن عدي: وحديثه عن الشاميين مستقيم وهو في الجملة ممن يكتب حديثه ويحتج به في حديث الشاميين خاصة" (1). وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب ": وضعف روايته عن غير الشاميين أيضا النسائي وأبو أحمد الحاكم والبرقي والساجي.
قلت: والبخاري أيضا، ونص كلامه كما في "تاريخ بغداد" (6/ 224): إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غير أهل بلده ففيه نظر.
فهذه النقول عن هؤلاء الفحول تؤيد ما ذهبنا إليه، وهو المشهور عند المشتغلين
بعلم السنة كما قال الحافظ في "التقريب ": صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم. وقد أفسد جملته الأخيرة المحشي عليه حيث قال: مخلط في غيرهم. أي عن أهل الحجاز. وهذا خطأ كخطأ ابن تيمية، وقصد الحافظ بعبارته أوسع من ذلك. ولم أجد من سبق شيخ الإسلام إلى القول بأن حديثه عن الشاميين وغيرهم إلا الحجازيين صحيح. وقد بين ابن حبان سبب ضعفه في غير الشاميين بقوله في "الضعفاء" (1/ 125): كان إسماعيل من الحفاظ المتقنين في حداثته، فلما كبر تغير حفظه، فما حفظ في صباه أتى به على جهته، وما حفظ على الكبر من حديث الغرباء غلط فيه، وأدخل الإسناد في الإسناد، وألزق المتن بالمتن وهو لا يعلم، فمن كان هذا نعته حتى صار الخطأ في حديثه يكثر، خرج عن حد الاحتجاج به. وقد ذكر الخطيب أن إسماعيل قدم قدمتين: الأولى إلى الكوفة، والأخرى إلى
بغداد، وولاه أبو جعفر المنصور خزانة الكسوة، وحدث بها حديثا كثيرا، ثم حكى أن وفاته كانت سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومائة. ولكنه لم يذكر موضع
وفاته أهو بغداد أم حمص.
إذا عرفت ما سبق يتبين لك أن الحديث ضعيف الإسناد لأن شيخ إسماعيل فيه بصري غير شامي، وأن الشيخ ابن تيمية أخطأ في تحسينه، كيف لا وفي الحديث العلل الأخرى
؟ والجواب عن بقية كلام الشيخ يطول وحسبنا ما تقدم. هذا من جهة إسناد الحديث، وأما من جهة متنه فقد ذكرت فيما تقدم أنه معارض
بحديث الصحيحين مما يؤكد ضعفه، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله حمله على الهدية
قبل الوفاء، فإذا صح هذا فلا تعارض بينهما، لكن ظاهر هذا الحديث أعم من ذلك، نعم ذكر الشيخ آثارا عن بعض الصحابة، بعضها صريح بما حمل عليه الحديث، لكن
البحث إنما هو في متن الحديث هل هو خاص بما ذكر أو هو أعم من ذلك كما يظهر لنا
؟ وقد قال الشيخ بعد تلك الآثار: فنهي النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل
الوفاء لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك ولم يتكلم
به فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وألف مؤخرة وهذا ربا، ولهذا جاز أن يزيده عن الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا. وهذا كلام فقيه، وإنما البحث في إسناد الحديث ومعناه كما تقدم. فتأمل.