ويجدر بنا أن نذكّر أنّ مصادر علم التجويد والقراءات تختلف عن مصادر الشريعة العامّة لأنّ القراءة لا تثبت إلاّ بالمشافهة عن المشايخ، وما نُقل عنهم بالنصّ من الأقوال المفسّرة لذلك التلقّي حيث لم يثبت في القرءان ولا في السنّة كيفيّة النطق بالحروف وما ينشأ عنها حال التركيب وكذا اختلاف القراءات والروايات. وبعد دخول الأعاجم في الإسلام اختلطت ألسنة العرب بالعجم وضعفت الهمم وكثر اللحن، فتفطّن أهل العلم لذلك فقاموا بتدوين علم التجويد والقراءات على وفق ما تلقّوا عن مشايخهم بالسند فبيّنوا اللحن الجليّ والخفيّ وبيّنوا مخارج الحروف والصفات وما ينشأ عنها لتحصين تلاوة القرءان الكريم من اللحن، وجمعوا ما وصلهم من القراءات والروايات والأوجه وبيّنوا الصحيح منها وما استفاض وتواتر عندهم وبيّنوا الشاذ منها وممّا انفرد به بعض الرواة، فصارت هذه النصوص مصدراً أساسياً للمتأخرين لأنّها تعبّر عن الكيفيّة الصحيحة التي قرأ بها أئمّة هذا الفنّ فكانت سراجاً ومعياراً وميزاناً تقوّم به ما قد يعتري التلقّى من السهو والوهم عبر القرون المتأخّرة، لذا كانت هذه النصوص أصلاً يعتمد عليه الفرع عند القياس.
والقياس حجة وهو من الأدلّة الشرعية المعتبرة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك كقياسهم خلافة أبي بكر على الإمامة في الصلاة، وقياس عمر رضي الله عنه في مسألة المشركة، وقياس علي حدّ شارب الخمر على حدّ القاذف حيث قال: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فعليه حدّ المفتري وغير ذلك مما لا يُحصى، وهذا يدلّ على أنّهم قد استدلّوا بالقياس وعملوا بما ينتج عنه بدون أن ينكر عليهم أحد فكان إجماعاً سكوتياً منهم على حجّيّته. والمجمع عليه بين الصحابة حجّة يجب العمل به. وهذا يدخل في مضمون قوله تعالى {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
والقياس في اللغة: التقدير، مثل قس الثوب بالذراع أي عرّفت مقداره، وقستُ القُذّة بالقذّة أي سوّيت بينهما في المقدار، والقياس من قاس يقيس، وقاس يقوس ويتعدّى بالباء وبعلى، فيقال قاسه على الشيء، وقاسه بالشيء ويكثر في الأصول تعدّيه بعلى. – الوجيز في أصول الفقه للزحيلي ص237.
أما القياس اصطلاحاً فقال الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس رحمه الله تعالى: " هو إلحاق فرع مجهول الحكم بأصل معلوم الحكم في ذلك الحكم لوصف جامع بينهما، يكون هو سبب الحكم الثابت بالأصل مع انتفاء الفارق بين الأصل والفرع بإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم للإسكار الجامع ما بينهما الذي هو علّة تحريمه " الفتح المأمون في شرح مبادئ الأصول تحقيق وشرح فضيلة الشيخ محمد علي فركوس حفظه الله تعالى ص81 و 82.
فمن خلال هذا التعريف يمكن استخراج أركان القياس وهي:
الأوّل: الأصل: وهو محلّ الحكم المشبّه به كالخمر فإنّه أصلٌ للنبيذ، وقد عبّر عنه العلامة ابن باديس رحمه الله تعالى بالأصل المعلوم.
الثاني: الفرع: وهو المحلّ الذي لم يُنصّ على حكمه كالنبيذ فإنّه فرعٌ والخمر أصلٌ، لأنّ الجميع مسكّر. وهو الذي عبّر عنه بالفرع المجهول.
الثالث: العلّة: وهو الوصف المعرّف للحكم، وهو المعبّر عنه بالوصف الذي يجمع بين الأصل والفرع أي السبب.
الرابع: حكم الأصل: وهو الحكم الشرعيّ الذي ورد به النصّ من كتاب أو سنّة أو إجماع، ويراد إثبات مثله في الفرع كحرمة الخمر، فيُثبت هذا الحكم في النبيذ لاتفاقهما في العلّة وهو التسكير. وهو المراد بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع بإلحاق الفرع بالأصل في التحريم.
وإذا أردنا أن نطبّق أركان القياس الأربعة على مسألة من مسائل التجويد أوالقراءات كالأوجه الثلاثة للمدّ العارض للإدغام قياساً على المدّ العارض للسكون مثلاً.
فالأصل: وهو المشبّه به المد العارض للسكون لثبوت الأوجه الثلاثة فيه نصاً وهي القصر والتوسّط والطول.
وأمّا الفرع: فهو المدّ العارض للإدغام من رواية السوسي عن أبي عمرو نحو {قيل لهم}، {حيث شئتما}، {قال ربّك}.
والعلّة: هي عروض السكون إلاّ أنّه يكون وقفاً بالنسبة للمدّ العارض للسكون، ويكون وصلاً بالنسبة للمدّ العارض للإدغام لأنّ الإدغام في نحو {قيل لهم} لا يكون إلاّ في الوصل.
¥