فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّوْا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ}.
كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.
وَلِهَذَا دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ} تَعْلِيمُ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيه جَمِيعًا، بَلْ تَعَلُّمُ مَعَانِيه هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ، كَمَا قَالَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا، وَإِنَّكُمْ تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: {حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْت أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ}، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَلَا تَتَّسِعُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ لِذِكْرِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّاسِ.
وَتَلَقَّاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافِقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الفتاوي الكبري 6/ 461
وقال أيضا:" وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ لَكِنْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ شَاءَ مِنْهَا كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضَهَا لِسَبَبِ مِنْ الْأَسْبَابِ. "
قال ابن تيمية:" مَسْأَلَةٌ: فِي جَمْعِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ؟ وَهَلْ جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِجَامِعِهَا مَزِيَّةٌ ثَوَابٍ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.
أَمَّا نَفْسُ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَحِفْظُهَا فَسُنَّةٌ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ، فَمَعْرِفَةُ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا، أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا، أَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ وَقَدْ أَقْرَءُوا بِهَا سُنَّةٌ، وَالْعَارِفُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْحَافِظُ لَهَا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْرِفُ إلَّا قِرَاءَةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَأَمَّا جَمْعُهَا لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالدَّرْسِ فَهُوَ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَعَلَهُ طَوَائِفُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْمَعُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ."1/ 8)))
والسلام عليكم
¥