د- قرأوا وسمعوا من أخبار بعضهم أنه يشرب الدخان، ويشرب بعضهم ما يمزج مع الدخان أو ما هو مثله مما روجه دجالو الصوفية المدعون الجذب والكشف والوجد .. ولا ريب أن الدخان وحده يرفضه الاجتهاد بالاستنباط إلى درجة التحريم؛ لمضاره الدنيوية، ولعزله صاحبه عن الاختلاط الطويل بالصالحين .. وهذا حق في ذاته، ولكنه لا يطفئ نور الإيمان، ولا يصد عن ذكر الله، ولا يقسي القلب، ولا يمنع من الاستنصار بالله على الهوى والنفس والشيطان وضعف الإرادة؛ فتحصل العصمة على المدى، ونية المؤمن خير من عمله، والطاعات وإن صغرت تجر إلى طاعة أكبر على المدى أيضا، والإقلاع عن بعض الذنوب وإن صغرت يجر إلى التجرد من الفواحش ما ظهر منها وما بطن على المدى أيضا، وربما رفع الله درجة المؤمن العاصي إلى درجة المحسنين، وجعل خلقه القرآن، وختم له بخير؛ فمحيت ذنوبه؛ فكان كيوم ولدته أمه، ولم يجد أمامه إلا رحمة ربه وعمله القاصر أو الطيب الذي ختم له به مضاعفا أضعافا كثيرة بإحسان ربه، ونحن لا نسأل الله عدله، فذلك وعد حتمي كتبه ربنا على نفسه برحمته؛ فهو القادر المتصرف في ملكه لا غالب لأمره، ومن عامله ربه بعدله هلك، وإنما نسأله رحمة ربنا ولطفه وهدايته التوفيقية بعد هدايته الإيضاحية البيانية في الشرع والكون؛ لأن ذلك هو طلب الإذن من ربنا بالإيمان والصلاح، فالله سبحانه قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} (سورة يونس-100)، وقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (سورة غافر-60)؛ فالدعاء من الأسباب إلى الآخرة كما نبذل الأسباب لدنيانا بطلب الحرث والنسل والصحة والغنى.
هـ- أن غالب هؤلاء القراء على هدي الصوفية في الضجيج والبدع .. وعلى هدي البدعة في التكلف والتحزين.
و- أنه لا يغلب أحدهم البكاء والخشية في تلاوته، ولا تجد ذلك في ضجيج السميعة، وإنما التلاوة عندهم حرفة للتطريب؛ فتذكر قومنا قراء يأتون آخر الزمان لا تتجاوز قراءتهم حناجرهم.
قال أبو عبدالرحمن: كل هذا حق، ولكنه لا يمنع من تخليص الحق من الأوشاب، ولا يمنع من اعترافنا بأننا على نقص وأخطاء جسيمة في ترك بذل الأسباب لإيجاد كوكبة تحسن التغني بالقرآن بالأصوات الجميلة الخشوعة المتدربة بعد الله بالعلم على ما يؤدي به خيار الأمة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم (وهم سادة الفصحى) كلام ربهم بما يرضي ربهم؛ فيحسن الناس الانتفاع بكلام الله، فبئس التاريخ في بيئتنا عصور تلك العامية التي يعشعش عليها الإلف والعادة، وخمود الفكر عن النظر بحرية ثم الالتزام لما دلت عليه عزائم الفكر من يقين ورجحان؛ فإن ربنا سبحانه في نزول القرآن بمكة المكرمة خاطب العقل والفؤاد (الذي هو مستقر المعقول إذا تحول إلى إيمان) والسمع والبصر، قبل المخاطبة بتكليف الشرع بالمدينة المنورة؛ لأنه إذا حصل الإيمان اليقيني بما يوجب السمع والبصر والفؤاد الإيمان به، وإذا حصل الإيمان الرجحاني فيما جعله الله للاجتهاد المؤهل: سهل الانقياد للشرع بتلذذ وشوق .. ومعذرة من هذا التدافع المنثال من الكث والبث؛ فلولا يقيني بانتفاع القارئ بتجربتي ما بثثت من سري شيئا .. ثم اعلموا أن كل بكاء أو قشعريرة أو عبرة في عبادة أي عبادة كالانكسار أمام الله بالدعاء في صلاة، أو خلوة، أو تلاوة، ولم يكن عن اعتبار بآية فهمت معناها المتوثب بالأرواح، ولم تعرف لتلك الخشية سببا: فسببها حفيف ملائكة الرحمن بك؛ فإن الله بث ملائكته عليهم السلام منهم كتبة الأعمال، ومنهم من يحفظك بأمر الله حتى يأتي أجلك أو قدرك الدنيوي الحتمي؛ وذلك نعمة للمؤمنين الشاكرين، وحجة على الكافرين الجاحدين ونقمة عليهم، ومنهم من يعينك على وساوس الشيطان بطمأنينة من الله، ومنهم من يغشى خلوتك في التلاوة والعبادة والانكسار فيدعو لك، ويستغفر الله لك بأن يقيك السيئات؛ فخذها مني حقيقة مطلقة قاطعة عن تجربة معاناة أن كل ما ذكرته هو من حفيف الملائكة، وهو بشرى للمؤمن، والله المستعان.
وكتبه لكم:
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري
- عفا الله عنه -
(1) ينظر عنه تتمة الأعلام للشيخ محمد خير رمضان ص265 - 266، وكذلك موقع عبدالباسط في الإنترنت، وقد نقلوا عن مذكراته.
(2) قرأ خلف بإشمام الصاد زاياً، والإشمام هو: (ضم الشفتين للتلفظ بالضم من غير صوت يُسمع؛ تنبيهاً على ضم ما قبلها أو ضمة الحرف الموقوف عليه ولا يشعر به الأعمى) .. زاد المسير 4 - 186 .. وقال أبو عبدالرحمن: هذا إشمام حركة، ولا علاقة له بموضوع الآية الذي هو إشمام الحرف .. قال الإمام نصر بن علي ابن أبي مريم (-ت بعد 565هـ) رحمه الله تعالى في الموضح في وجوه القراءات وعللها 1 - 169 (بتحقيق الدكتور عمر حمدان الكبيسي - نشر الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن بجدة- الطبعة الأولى عام 1414هـ): (الصاد التي هي كالزاي، وهي تسمى المضارعة بين الزاي والصاد نحو (الزراط) إذا لم تجعلها زاياً خالصة ولا صاداً خالصة، وذكر 1 - 230 أنها قراءة ابن كثير برواية قنبل، ويعقوب برواية رويس، وأنها قراءة حمزة وحده برواية خلف في سورة الغاشية كما في 3 - 1364، وذكر كراهية بعضهم لهذه القراءة لما فيها من تكلُّف.
(3) الجعد قصير الشعر، والقطط بلوغ الغاية في الجعودة، والسبط المسترسل، وكان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً لا سبطاً ولا جعداً، فالجعودة ليست وسطية، فلم يصادف المعنى الذي يريده حمزة رحمه الله لفظاً دالاً عليه، ولو قال: (وليس ما دون السبط إلا الاعتدال، أو الجعد القطط): لكان أوفق.
(4) انظر غاية النهاية في طبقات القراءة لابن الجزري رحمه الله تعالى 1 - 263 - دار الكتب العلمية ببيروت.
(5) انظر في علوم الحديث لابن الصلاح رحمه الله تعالى ص137 - 138 - دار الفكر المعاصر ببيروت مع دار الفكر بدمشق.
(6) غاية النهاية 1 - 319.
(7) عن الإنترنت عن دنيا الوطن ببغداد عن الدكتور أحمد الديلمي.
(8) مادام بعد الياء ألفُ تقتضي علامة تنوين فالأولى جعل الشدة والسكون على الياء الأولى، والتنوين هو للياء الثانية.
(9) كان المبرد رحمه الله يتمنى أن يكوي يد من كتبها (إذاً) لأن النون أصلية في الحرف مثل عن وعند.
¥