وحتى لا يتبادر إلى الذهن ذهاب شئ من القرآن دون حفظ فقد تكفل بحفظ كتابه بنفسه وهيأ له من الرجال الأفذاذ من يقومون بهذا الدور تصديقًا لقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، (سورة الحجر: 9) ولهذا يقول ابن الجزري (ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا لم يهملوا منه حركة ولا سكونًا ولا إثباتًا ولا حذفًا، ولا دخل عليهم في شئ منه شك ولا وهم وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه، كل ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) [10، ج1 ص6].
أهمية القراءات الشاذة
القراءة الشاذة هي التي فقدت عنصرًا هامًا من عناصر الصحة والسلامة ولكن هذا لم يبعدها كثيرًا عن الإفادة منها مع القراءات المتواترة بل كانت رافدًا من روافد علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة، فأهميتها تظهر في المؤلفات العلمية على اختلاف تخصصاتها: فكتب التفسير تعنى بالشواذ وتنقل الكثير منه وتوجهه وتفيد في شرح المعاني وترجيح الآراء، وكتب معاني القرآن وإعرابه تهتم كثيرًا بالشواذ [21، ص468].
كما أن كتب الفقهاء مليئة بها حيث أن وجودها أدى إلى اختلافهم في الاحتجاج بها، وإن لم يقبلوها على أنها قرآن، وإنما قبلوها على أنها أخبار أو تفسير للقراءة [22، ص3،4].
أما كتب اللغة والنحو فاهتمامها بالقراءات الشاذة لا يخفى على أحد يقول محمد عضيمة (القرآن الكريم حجة في العربية بقراءاته المتواترة وغير المتواترة، كما هو حجة في الشريعة، فالقراءة الشاذة التي فقدت شرط التواتر لا تقل شأنًا عن أوثق ما نقل إلينا من ألفاظ اللغة وأساليبها، وقد أجمع العلماء على أن نقل اللغة يكتفى فيه برواية الآحاد) [23، ق1 ج1 ص2].
ثم إن هذه الأهمية للقراءات الشاذة تكمن في النقاط الآتية:
1 - عناية المفسرين بها جنبًا إلى جنب مع القراءات المتواترة في كتبهم.
2 - أنها تدل على معنى صحيح لا تدل عليه القراءة المتواترة.
3 - قد توضح أحيانًا المقصود من القراءة المتواترة [2].
4 - ثم إفرادها في مؤلفات خاصة جمعت الشواذ من أول القرآن إلى آخره [3].
5 - العناية بتوجيهها التوجيه النحوي وبيان كثير من آثارها على اللغة [15،24].
6 - الاهتمام بالقراءات الشاذة وبيان آثارها على الأحكام في الفقه الإسلامي [انظر مرجع 22].
أنواع القراءات الشاذة
من خلال التتبع والاستقراء في المصادر الخاصة لشواذ القراءات وكذلك بالمصادر التي اهتمت ببيان أنواع القراءات المردودة يتبين أنها تنقسم إلى أربعة أنواع.
النوع الأول: القراءات الشاذة المشهورة: وهي التي وافقت العربية والرسم العثماني وصح سندها إلا أنها لم تبلغ درجة التواتر ومن أمثلتها قراءة ابن عباس في آخر سورة التوبة قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" القراءة المتواترة بضم الفاء، والقراءة الشاذة بفتح الفاء (أنفسكم) [التوبة: 128].
النوع الثاني: القراءات التي جاءت بطريق الآحاد وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: كل قراءة لم يصح سندها وإن وافقت العربية والرسم العثماني، يمثل لها بقراءة ابن السميفع في قوله تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً" [يونس: 92].
قرئت شاذة (ننحيك) بالحاء المهملة، وخلفك بفتح اللام [10، ج1 ص16. فهذه وصفت بأنها ضعيفة مردودة، وسمى هذا النوع السيوطي بأنه موضوع [9، ج1 ص216].
القسم الثاني: كل قراءة صح سندها في الآحاد ولها وجه في العربية وخالفت رسم المصحف، ويمثل لها بأمثلة منها قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء في سورة الليل "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى" [آية: 3] بحذف لفظ (ما خلق) [4] [10، ج1 ص14] وكذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب وابن عمر وابن الزبير وغيرهم (فامضوا إلى ذكر الله) بدلاً من (فاسعوا) [الجمعة: 9].
قال أبو الفتح في هذه القراءة تفسير للقراءة العامة، أي اقصدها وتوجهوا، وليس نية دليل على الإسراع [26، ج2 ص322].
وكقراءة ابن عباس ((وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، وأما الغلام فكان كافرًا)) [الكهف 79 - 80] [20، رقم 4725،4726].
¥