وعلى هذا فالرأي ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من صحة الاحتجاج بالشاذ في بيان الأحكام الشرعية العملية. والله أعلم.
موقف اللغويين من القراءة الشاذة:
يعتبر القرآن الكريم بقراءته المتواترة والشاذة أصلاً أصيلاً بالنسبة للنحو العربي فقد ارتبط النحو بالقرآن منذ نشأته ارتباطًا وثيقًا فقد (وقف النحاة من القراءات الشاذة موقفًا نحويًا التزموا فيه بالمقياس، فقبلوا منها ما وافقهم ورفضوا ما تأبى عليهم، ولم يكن ثمة ما يميز في هذه المواقف بين بصري وكوفي أو بغدادي خلافًا لما كان ذائعًا بين الباحثين، فقد كان الخليل وسيبويه وأبو عبيدة معمر بن المثنى البصريون يسلمون بوجوه كثيرة منها، وكان الفراء وابن مجاهد والطبري الكوفيون ينكرون بعضها) [62، ص120 - 121].
بل أوضحت الدراسات أن النحاة كانت مواقفهم من القراءة الشاذة مواقف (علمية منهجية تتفق ومواقفهم من سائر الأساليب اللغوية، فقد جعلوها مصدرًا من مصادر احتجاجهم إلى جانب القراءات المشهورة والشعر وأقوال العرب وأخضعوها لمقاييسهم العامة وربطوا احترامهم لها بمدى انقيادها أو تأبيها على تلك المقاييس، فما اتفق منها معهم اعتدوا به وجاهروا في الانتصار له، وما خالفهم احتالوا له وأولوه أو أسفروا عن طعن فيه) [62، ص116].
يتبين من هذا أن موقف النحاة من القراءات الشاذة كان على رأيين:
الفريق الأول: احترم هذه القراءات وأجلها وهم كثير من النحاة واللغويين وعبر عن هذا الموقف ابن خالويه والرازي قال الأول: (قد أجمع الناس جميعًا أن اللغة إذا وردت في القرآن فهي أفصح مما في غير القرآن لا خلاف في ذلك) [63، ج1 ص213].
وقال الرازي: (إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول فجواز إثباتها بالقرآن أولى من هذا كله) [37، ج3 ص193].
أما الفريق الثاني: فقد رفض كثيرًا من القراءات وطعن فيها لا أقول الشاذة بل والمتواتر كذلك، فيرميها تارة بالخطأ، وتارة بالرداءة وأخرى بالضعف لأنهم وضعوا معايير وقواعد للغة، فإذا اصطدمت القراءة بما وضعوه من المعايير لجأوا إلى طرق مختلفة لردها: إما أولوها أو رفضوها أو رموها بالضعف أو الشذوذ ولعل السبب في ذلك يعود إلى اعتقادهم أن القراءات مجرد آراء وليس لها صلة بالرسول عليه الصلاة والسلام فهي ضعيفة السند، وبالتالي لم تثبت لديهم بما تقوم به الحجة – فردوها لذلك أو باجتهاد من بعضهم حسب ما غلب على ظنه بتخطئة القراءة وتخطئة من قرأ بها.
وبالنظر إلى كتب النحاة واللغويين يتبين أن القراءات متواترها وشاذها كانت حجة عند أغلبهم حتى النزر اليسير الذي أنكرها كان ذلك الإنكار لقيام مانع عنده، أما مع عدم المانع فكانت القراءات عند الجميع حجة.
ولذلك يقول السيوطي: (وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسًا معروفًا، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه وإن لم يجز القياس عليه كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه ولا يقاس عليه، وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافًا بين النحاة وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه) [64، ص67 - 68].
فهذا وغيره يؤكد منزلة القراءات الشاذة لدى علماء اللغة واهتمامهم بها أيما اهتمام.
القراءات الشاذة والجوانب التاريخية:
ذهب الدكتور أحمد البيلي إلى الاحتجاج بالقراءات الشاذة على الأحداث التاريخية، وذكر أنه لم يجد هذا الاحتجاج في المصادر التي وقف عليها للمتقدمين ممن اعتنى بالقراءات الشاذة، ولذا كان له قصب السبق بهذا الاستدلال إذ لم يسبقه إليه أحد، وذكر نموذجين لهذا الاحتجاج بالقراءة على أحداث التاريخ، أحدهما في قوله تعالى "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ. . ." [البقرة: 123] قرأ القراء العشرة برفع يعقوب، وروي عن علي بن أبي طالب أنها قرئت قراءة شاذة بنصب باء ((يعقوب)) [25، ج1 ص399].
¥