يقول ابن جني مبينًا هذا النوع من القراءات: (وضرب تعدى ذلك فسماه أهل زماننا شاذًا، أي خارجًا عن قراءة القراء السبعة المقدم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله أو كثير منه مساو في الفصاحة للمجتمع عليه. .) [26، ج1، ص32].
وقد أدرك المفسرون قديمًا وحديثًا أثر القراءات سواء كانت متواترة أم شاذة في بيان معان جديدة للآيات القرآنية فهذا ابن عباس رضي الله عنه يبين أثر القراءة الشاذة في بيان معنى جديد للآية في قوله تعالى: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَْرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا. ." [البقرة: 61] ففسر ((فومها)) بالحنطة، وهي القراءة المتواترة [19، ج1، ص383].
كما فسرها بالثوم على قراءة ابن مسعود، وهي شاذة [65، ص6]، قال: هو هذا المنتن (يعني الثوم) وبهذا نعلم أن المفسرين تعاملوا مع القراءات وكأنها آيات مستقلة من حيث دلالاتها على المعاني [12، ج13، ص391].
ونستطيع أن نقرر في ضوء ذلك أن من حكم وجود القراءات إثراء المعاني اللغوية إضافة إلى الحكم السابق ذكرها، فيكون للقراءات أثرها الكبير في اختلاف المعنى. ونظرًا لعظم الموضوع وتشعبه يمكن الاقتصار على نماذج من أثر القراءات الشاذة في التفسير تتناول الموضوعات التالية:
1 - القراءات الشاذة التي بينت معنى الآية.
2 - القراءات الشاذة التي وسعت معنى الآية.
3 - القراءات الشاذة التي أزالت الإشكال.
القراءة التي بينت معنى الآية:
النموذج الأول:
قوله تعالى: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ. ." [البقرة: 88]، قرأها عامة القراء العشرة ((غلف)) بإسكان اللام، وقرأها ابن عباس والأعرج وابن محيصن بضم اللام ((غلف)) وهي قراءة شاذة [72، ج1 ص113].
معنى القراءتين: المتواترة: تعني أن قلوبهم مستورة عن الفهم والتمييز [73، ج1 ص301]، ومعنى القراءة الشاذة ((غلف)) جمع غلاف مثل خمر جمع خمار، والمعنى يحتمل الوجوه التالية [19، ج2، ص458]:
1 - أنها أوعية للعلم أقاموا العلم مقام شئ مجسد وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفا له ليستدل بالمحسوس على المعقول.
2 - إنها أوعية للعلم تعي ما تخاطب به لكنها لا تفقه ما تحدث به.
3 - أنها أوعية مملوءة علمًا.
4 - أنها أوعية خالية كالغلاف الخالي لا شئ فيها.
وبالتالي نجد أن القراءة الشاذة بينت ما يتذرعون به من الحجج في عدم قبولهم دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبذلك نجدها أنها بينت حال قلوبهم [29، ج1، ص25].
النموذج الثاني:
قوله تعالى: "أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ. . ." [البقرة: 184]، قرأها عامة القراء العشرة ((يطيقونه)) بضم الياء وتخفيف الطاء [73، ج1، ص231].
وقرأها ابن عباس في المشهور عنه ((يطوقونه)) بضم الياء وتخفيف الطاء و واو مفتوحة مشددة، مبنيًا للمفعول: أي يكلفونه.
وقرأها كل من عائشة ومجاهد وطاووس ((يطوقونه)) وأصله يتطوقون أي يتكلفون.
وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد: ((يطيقونه)) [26، ج1، ص118 - 119].
معنى القراءات:
المتواترة معناها القادر على الصوم له أن يترك الصوم إلى الفدية ولا يلزمه القضاء، وهي على هذا منسوخة [72، ج1، ص186].
ومعنى القراءة الشاذة، أن الذي يتكلف الصوم ويكون له كالطوق في عنقه له أن يتركه إلى الفدية ولا يلزمه القضاء وهي على الشيخ الكبير وكذا العجوز والمرضع والحامل [29، ج2، ص287 - 289]، واختلف العلماء في هذه القراءة فمنهم من أثبتها قرآنًا ومنهم من أثبتها تفسيرًا له وبيانًا يقول القرطبي ((يطوقونه)) ليست من القرآن خلافًا لمن أثبتها قرآنًا وإنما هي قراءة على التفسير) [29، ج2، ص287] وقال أبو حيان ردًا عليه: (قال بعض الناس: هو تفسير لا قراءة خلافًا لمن أثبتها قراءة) [25، ج2، ص35].
¥