فكان rبإزاء هذه النعمة الكبرى عليه، وهذا الفضل الرباني العظيم} وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا {[سورة النساء آية 113] لا يرى نفسه إلا عبداً لله عز وجل "" يجوع يوماً فيصبر ويدعو ويتضرع إلى ربه عز وجل، ويشبع يوماً فيشكر ربه ويحمده "" ([22]) يرجو رحمة الله ويخاف عقابه سبحانه وتعالى أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لاَ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» ([23]).
وبرغم ما أكرمه الله عز وجل به من النصر العزيز، والفتح المبين لم يشمخ بأنفه إلى السحاب كما يفعل القادة عادة، ولم يصدع رؤوس الناس بعظمته وانتصاراته كما يفعلون عادة، ولم يُنكّل بأعدائه وخصومه الذين آذوه وطردوه وقتلوا أصحابه وأحبابه، بل قال كلمته المشهورة التي ينبغي
أن تُكتب برؤوس الأبر على آماق البصر، وبماء الذهب على شغاف القلب، قال r "" اذهبوا فأنتم الطلقاء "" ([24]) لمن؟!
لمن طردوه وآذوه أشد الأذى، وقاتلوه أشد القتال، وتكالبوا عليه، وألّبوا عليه العرب، وقتلوا أعز الناس على قلبه! قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء!.
يدخل الفاتحون المنتصرون عادة إلى البلدان المهزومة بالزغاريد والشموخ والأبهة والعظمة، فكيف دخل المصطفى r مكة المكرمة؟
دخل وهو يركب فرسه متواضعاً متخشعاً لله عز وجل، يترنم بسورة الفتح، ([25]) ويتطلع إلى السماء شاكراً لربه عز وجل، ومستمطراً رحمته وكرمه.
إن حالة دخوله r إلى مكة فاتحاً منتصراً وحوله كتيبته الخضراء، هذه الحالة من التواضع والتذلل في مثل هذا الموطن الذي يدعو إلى الزهو والتعاظم، لهي رسالة إلى كل عقل حر، وقلب حي، وإنسان صادق في بحثه عن الحقيقة تخبره عن حقيقة هذا الرجل من هو؟! أهو طالب ملك؟ ها هو الملك بين يديه فلماذا لا يتعاظم به؟ أهو رائد دنيا وعظمة؟ ها هي الدنيا والعظمة تتضاءل بين يديه فلماذا لا يمتلكها؟ أم هو نبي مرسل يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه ويبتغي رضوانه؟
أجل لقد اقترب منه رجل أعرابي فرأى حوله جنده وجيشه غاطسون في الحديد، فأخذته رعدة من الخوف فهدأ النبي r من روعه وقال له: ياأخا العرب إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة! ([26])
أجل إنه r في هذه اللحظة الحاسمة بعد عشر سنوات من الجهاد والحروب ها هي مكة بين يديه، وأهلها طوع أمره، وعتاتها وطغاتها في قبضته، إنها صورة رائعة تدعو إلى التطاول والكبرياء، وتغري بالانتقام، ولكنه rوقد أدّبه ربه عز وجل فأحسن تأديبه، تذكّر أن هذا فضل من الله عز وجل، وكرم وتوفيق ونصر منه سبحانه وتعالى، ثم عاد مباشرة بذاكرته إلى الأيام الخوالي، يوم كان طفلاً يتيماً فقيراً مُعدما، ً يوم كانوا يرشون التراب في وجهه، يوم كان يرعى الأغنام، يوم الطائف، يوم الجزور، يوم الحصار والجوع، ثم توقف عند صورة مؤثرة هي: يوم كان يأكل القديد مع أمه بمكة!! أجل ياأخا العرب فأنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة!.
في وسط البهجة والانتصار، وفي وسط المجد والفخار، وفي وسط العزة والاقتدار، يتذكر ويُذكّر النبي rبحالة ضعفه وفقره لينفعل مع جيشه وجنده والناس جميعاً بالشكر لله عز جل، فكل ما هو فيه الآن هو محض فضل وإنعام من الله جل وعلا.
ولم يستطع بعض أصحابه أن يئد حالة الزهو والفخر في كيانه، فقال وهو يمر على بعض سادة قريش الواجمين المنكسرين: اليوم يوم الملحمة، ونُقل ذلك له r فقال: بل اليوم يوم المرحمة ([27])، ونزع اللواء من صاحبه وأعطاه لابنه – لابن صاحب اللواء - وهنا تتجلى رحمة النبي r وسياسته في إصلاح الأخطاء، وتأليف القلوب، وتضميد الجراح، وتنظيف الصدور، وتطييب الخواطر.
إنه r قد كف نفسه عن شهوة السلطان والملك، وغرور القوة والتمكين، ورغبة التشفي والانتقام، وأراد للناس جميعاً أن يتعايشوا متحابين متكافلين تحت مظلة التوحيد والعدل.
¥