فالمادية، واللامادية، والمثالية، والعقلانية، والعِلمانية، والتطورية، والجنسانية، والأنسنة، والحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعنصرية، والفردية، كل هذه العناصر التي أفرزتها العلمانية عبر تاريخها الطويل أُريدَ منها أن تحقق للإنسان السعادة في هذه الحياة الدنيا دون أي اعتبار آخَر ليوم آخِر، والسعادة المقصودة هنا هي أقصى قدر ممكن من اللذة والمتعة.
وهنا يمكن أن يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: أن الشرائع السماوية أيضاً قصدت تحقيق السعادة للإنسان في الحياة الدنيا فهل الأديان منخرطة على هذا الأساس في تيار العلمانية؟
والإجابة: أن الشرائع الإلهية تربط سعادة الدنيا بالسعادة في الآخرة، لذلك فسعادة الإنسان في الحياة الدنيا بمنظور الشرائع الإلهية ألا ينخرط في الملذات والشهوات والمُتع دون ضوابط وحدود لأن هذا سينغص سعادته في الآخرة.
لقد تركت هذه الدنيوية العلمانية أثرها حتى على الإسلاميين، فأصبحنا نُبرز كثيراً عناية الإسلام بالحياة الدنيا، ودعوته إلى عمارتها، والاستمتاع بالطيبات منها، ونتغاضى - مجاراة للعلمانيين - عن أن الإسلام في الأصل يدعو الناس إلى الآخرة عبر ممر الدنيا، وهذا لا يعني تخريب الدنيا، وإنما يعني التطلع إلى المستقبل الأبدي، وليس إلى الحياة العاجلة، وهذا ليس من شأنه أن يجعلنا نهمل عمارة الحياة الدنيا، وإنما من شأنه أن يُهذِّب نفوسنا ويسموَ بها عن الأنانية، ويطهرها من السخائم والعداوات والتنافس على المتاع الزائل والحطام الفاني.
وهنا يجدر بنا أن نتذكر قول أحد أقطاب الصوفية كتلخيص لموقف الإسلام من الحياة الدنيا " أن تكون الدنيا في يدك وليس في قلبك " وهذا بعكس العلمانية التي تريد أن تمزج الدنيوية بكل ذرة من ذرات الجسد الإنساني، وتغرسها في صميم قلبه، وتجعلها الملاذ الوحيد، والمعشوق الوحيد، والغاية النهائية للإنسان، ولا يخفى ما في ذلك من تكريسٍ للتنافس الأعمى بين البشر دولاً وأفراداً، وهو ما نعايشه اليوم، لأن البقاء للأقوى، وساحة البقاء في المنظور العلماني قاصرة على هذا العالم المحسوس فقط.
وتتجلى الدنيوية واضحة في الممارسات التأويلية التي تشتغل على النص القرآني فتحاول دائماً أن تحد من سلطانه الإلهي، وتبرز دائماً ما يؤكد على الاعتبارات الدنيوية في مسائل الميراث، والمرأة، والحجاب، والدولة والأخلاق، ويُبرَّر ذلك بمبررات دنيوية محضة مثل: مواكبة العصر، ومسايرة التحضر، وتطور الفكر. والنموذج الذي يُحتذى في كل ذلك هو الغرب، فكل ما عنده أصبح معيار التطور والتحضر والتقدم، وتغفل هذه الممارسات أو تتنكر للجانب الغيبي الأخروي الذي يشكل الحيِّز الأكبر من الرسالة القرآنية، وفي حالات متطرفة فإنها تقوم بعملية مسخ وتشويه لهذا الجانب عن طريق " التأويل المنفلت " لتجعله يصب في خدمة الدنيوية أيضاً.
4 – خلاصة:
العلمانيون - كما مر بنا سابقاً - يستدلون على علمانية الإسلام بدنيويته، وبما حصل في التاريخ الإسلامي من ترف وبذخ وإقبال على الدنيا، فهم بذلك يقرون بأن الدنيوية هي جوهر العلمانية، وقد مر معنا كذلك كيف تؤكد دوائر المعارف والمعاجم الغربية على دنيوية العلمانية بما يغني عن الإعادة هنا.
لقد أشرنا - سابقاً - إلى أن الدنيوية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والحضارات، وأن أكثر الأمم اختارت الحياة الدنيا على الآخرة، ذلك لأن الحياة الدنيا حلوة خضرة وقريبة، أما الآخرة فهي في منظور الإنسان العجول بعيدة غير مغرية كما تفعل الحياة الدنيا "متاع الغرور ".
والسؤال هنا: كيف نحدد عناصر الحضور والغياب في التعريف الذي نقترحه؟ وهل الدنيوية مطلقاً تُوصَف بأنها علمانية؟ أم أنها دنيوية ذات نسبة معينة؟
والسؤال بعبارة أخرى: ما هو الحد الذي تتحول فيه الدنيوية إلى علمانية.
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الشرائع السماوية فيها جانب دنيوي فهل هي بذلك علمانية، أم تحتوي على نسبة معينة من العلمنة؟
إن الدنيوية تتحول إلى علمانية عندما تتحول الوسيلة إلى غاية، والممر إلى مقر، وقد يعترض علينا هنا بأننا نتحدث بلهجة صوفية وعظية، ولكن هذه هي الحقيقة سواء كانت في قالب صوفي وعظي أم حداثي معاصر؟
¥