المرضي لله، ويترك الشر؛ لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته فى دينه ودناه ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده .. فالعاقل لا يقلد عاقلاً مثله، فأجدر به أن لا يقلد جاهلاً هو دونه!
وإذ القول بنفي الرابطة بين الأسباب والمسببات جدير بأهل دين ورد فى كتابه أن
الإيمان وحده كاف في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحول عن مكانك، فيتحول
الجبل! .. يليق بأهل دين تعد الصلاة وحدهاـ إذا أخلص المصلى فيهاـ كافية فى اقدراه
على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري! .. وليس هذا الدين هو دين الإسلام!
دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه: (وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) [التوبة: 105]ـ (وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ) [الأنفال:60]ـ (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 62]. وأمثالها.
وليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله!.
إن الله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل .. وهى التي تسمى شرائع أو نواميس، أو قوانين .. ونظام المجتمعات البشرية وما يحدث فيها، هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل. وعلى من يطلب السعادة في المجتمع أن ينظر فى أصول هذا النظام حتى يرد إليه أعماله، ويبني عليها سيرته، وما يأخذ به نفسه، فإنه غفل عن ذلك غافل فلا ينتظر إلا
الشقاء، وإن ارتفع في الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه. فمهما بحث الناظر
وفكر، وكشف وقرر أتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجرى مع طبيعة الدين، وطبيعة
الدين لا تتجافي عنه، ولا تنفر منه (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137].
إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا، يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة، لتقديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على
الأمة ـ في مجموعها ـ أن يكون فيها قوم يبيون لها من سن الله في خلقه، كما فعلوا في
غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء
بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع
كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل
اجتلائها ومعرفة حقيقتها ..
وبهذا الأصل، الذي قام عليه الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد .. ".
وبعد هذا "المقال في العقلانية الإسلامية"، التي تفرد بها الإسلام دون سائر الديانات .. ينبه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده على تميز هذه العقلانية الإسلامية بأنها "عقلانية مؤمنة " تميزت بالوسطية الإسلامية الجامعة بين "العقل" و "الوحي" ـ بين "السنن الكونية: كتاب الله المنظور" وبين "آيات الوحي والشرع: كتاب الله المسطور" .. فهي بريئة من "اللاهوت الخرافي" براءتها من "الغرور العقلاني" .. بريئة من العقلانية المجردة من النقل ـ كما كان الحال في الحقبة الإغريقية ـ وبريئة من العقلانية المادية الوضعية التي جاءت ـ في النهضة الأوروبية ـ ثورة على اللاهوت اللاعقلاني
ولذلك، ضبط الإمام محمد عبده هذه العقلانية الإسلامية المؤمنة .. عندما قال:
" .. فالعقل البشري وحده ليس فى استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه سعادته في هذه الحياة، اللهم إلا في قليل ممن لم يعرفهم الزمن، فإن كان لهم من الشأن العظيم ما به عرفهم أشار إليهم الدهر بأصابع الأجيال:
وقد يكون من الأعمال ما لا يمكن درك حسنه، ومن المنهيات ما لا يعرف وجه
قبحه، وهذا النوع لا حسن له إلا الأمر ولا قبح إلا النهى! ..
إن مجرد البيان العقلي لا يدفع نزاعا ولا يرد طمأنينة، وقد يكون القائم على ما وضع من شريعة العقل يزعم أنه أرفع من واضعها، فيذهب بالناس مذهب شهواته، فتذهب حرمتها، وينهدم بناؤها، ويفقد ما قصد بوضعها ..
¥