ويلح أركون على ضرورة الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل تاريخي وخارج كل حكم ديني أو عقائدي وتيولوجي، لأن "الأرثوذكسية الإسلامية تضغط دائما بالمحرمات على الدراسة القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب" [14]. لكن المستشرقين في المرحلة التاريخوية والفيلولوجية وحدهم الذين استطاعوا انتهاك هذه المحرمات، لأن العقل العلمي -في نظر أركون- كان في أوج انتصاره، مدعوما من قبل الهيمنة الاستعمارية. ويدلنا بهذا الصدد على الأعمال النقدية للنص القرآني التي قام بها كل من نولدكه وبلاشير. أما اليوم، فقد تراجع ذلك بفعل المد الأصولي المتشدد.
يدل أركون القارئ على ثلاثة كتب نشرت بالأمس القريب:
- مقاربات لدراسة تاريخ تفسير القرآن .. أندريو ريبين، مطبوعات أكسفورد 1988.
- مقاربات لدراسة القرآن .. ج. ر. هاوتنغ وعبد القادر أ. شريف، روتليدج، لندن 1993.
- القرآن بصفته نصا .. كتاب جماعي بإشراف ستيفان ويلد 1996.
هذه الكتب، كما يقيّمها أركون، تخضع لمنهجية واحدة هي "المنهجية التاريخوية الفيلولوجية التي سيطرت على الاستشراق الكلاسيكي طيلة القرن التاسع عشر وحتى وقت قريب. فاستمرارية الإشكاليات التاريخوية والمجريات الفيلولوجية والفضول المعرفي الهامشي، كلها أشياء تسيطر على هذه الدراسات" [15]. وهذا أيضا ما وجده عند جوزيف فان إيس ( Joseph Van Ess)؛ ذلك أن القرآن يتطلب تطبيق كل المناهج عليه وليس فقط المنهجية الفيلولوجية التاريخوية.
مقابل هذه الأبحاث التي انتقدها يمجد أركون كتاب [16] جاكلين شابي ويعبر عن سعادته لكون الكتاب يسير في الاتجاه الذي يرغب الباحث المفكر ويسعى إليه، يقول: "إن كتابها يقدم المثال العملي المحسوس على إمكانية تحقيق طفرة نوعية، إبستمائية وإبستمولوجية، في الكتابة التاريخية عن القرآن. إن المؤلفة ترسم حدودا لا يمكن اختراقها بين القانون المعياري لمهنة المؤرخ من جهة وبين مجال الفكر الإيماني والمعرفة الإيمانية من جهة أخرى" [17]. ويستدرك أركون أن لجاكلين ميزة دمج هذا المجال الموضوع منهجيا على حدة داخل أرضية التحري والبحث التاريخي.
إن جاكلين شابي تجاوزت الصرامة العلموية للمنهجية التاريخية-النقدية التي كانت قد فرضت أحكامها منذ القرن التاسع عشر، كما حافظت على المنهجية الفيلولوجية وأغنتها عن طريق المكتسبات المنهجية والمصطلحية التي قدمتها الألسنيات الحديثة وعلى رأسها التمييز بين النص الشفهي وبين المكتوب ... [18]
3 - القراءة الألسنية والسيميائية النقدية
إن القراءتين التيولوجية الإيمانية والتاريخوية الاستشراقية تعانيان من ثغرات كبيرة، فهما في نظر أركون غارقتان في دائرة اللامفكر فيه. كما أن المعايير المطبقة في المجالين لا تنسجم مع المناهج اللغوية والنقدية والأدبية الحديثة. من هنا يقترح أركون منهجية جديدة في قراءة النص القرآني باستخدام المعارف اللغوية والسيميائية والنقدية ... ويؤكد محمد أركون أن علم السيمياء يطمح إلى الاستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بينها وبين المواد المقروءة الأولية، ثم كل المواد الثانوية التي أنتجها التراث في آن معا.
وأشير هنا إلى أن كتاب الدلالة البنيوية (1966 Sémantique structurale) لألجيرداس جوليان كريماس (( Algirdas Julien Greimas يعتبر اللبنة الأساس لما يعرف بمدرسة باريس السيميائية الشهيرة، وهي المدرسة التي يتبناها محمد أركون، وإن كانت السيميائيات كدراسة لحياة العلامات قد بشر بها فردناند دو سوسير 1916 في كتابه دروس في اللسانيات العامة ( Cours de linguistiques générales)، وبورس ( Charles Sanders Peirce) في أمريكا.
لكن، كيف تقوم العلامات ( les signes) المستخدمة في النصوص بالدلالة على وتوليد المعنى؟ ما الآليات الألسنية المستخدمة من أجل إنتاج هذا المعنى المحدد وليس أي معنى غيره؟ لمن ينبثق هذا المعنى وضمن أي شروط؟
¥