ينبهنا أركون إلى أن هذه الأسئلة لا تهدف إلى نزع صفة الوحي عن النصوص ولا إلى إلغاء شحنتها التقديسية ولا إلى إزالة آثار معناها الروحي بالنسبة للمؤمنين. على العكس، إنها تهتم بهذه الأشياء والسمات وبوظائف المعنى بصفتها أساليب لتوليد الدلالة لا تزال تنتظر تحديد مكانتها المعرفية ضمن مقاربة شاملة تهتم بكل ما ينتج المعنى والدلالة [19]. لكن، ما العمل والنصوص التي يريد قراءتها لا تهتم بمسألة التمييز بين المعرفة والإيمان ( le savoir et le croire) ؟
ويوضح أن الزحزحة [20] ( déplacement) التي أحدثتها البحوث السيميائية والألسنية المعاصرة أصبحت في حكم المكتسبات المؤكدة التي لا تناقش. وهذا يدعو إلى إعادة النظر بعلاقة الفكر باللغة.
كما يلاحظ محمد أركون أن التراث عندما يتوجه إلى أكبر عدد ممكن من الناس فإنه يميل إلى ممارسة فعله وأثره رافضا - باسم الأرثوذكسية - تعددية المعاني والدلالات المتجلية في التفاسير والمدارس المختلفة، ورافضا أيضا إمكانيات المعنى الاحتمالية.
في هذا الإطار، لا يخفي أركون قلقه من قلة الأبحاث السيميائية على القرآن الكريم، باستثناء محاولة نصر حامد أبي زيد التي لا تشفي غليله، رغم كونه أول باحث مسلم يكتب بالعربية بادر إلى تطبيق الألسنيات الحديثة على النص القرآني وانتهك محرمات كثيرة بهذا الصدد. ورغم ما أحدثته كتاباته من ضجة فإن أركون يراها كتابات عادية تدل على مدى اتساع اللامفكر والمستحيل التفكير فيه [21]. ويرى أن الفكر الديني اليوم بحاجة إلى باحثين مستقلين بعد أن كان طيلة قرون عديدة إما حكرا على سدنته وخدامه المتحمسين، وإما وسيلة للمجادلين الذين يستهدفون غايات أخرى.
لماذا؟
لأن التحليل السيميائي في نظر أركون يفرض على الدارس ممارسة تمرين من التقشف والنقاء العقلي والفكري لا بد منه. إنه "يمثل فضيلة ثمينة جدا وخصوصا أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت وشكلت طيلة أجيال عديدة الحساسية والمخيال الجماعيين والفرديين. وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية تجاه النصوص أو بيننا وبين النصوص "المقدسة" دون إطلاق أي حكم من الأحكام التيولوجية أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المومنين فورا" [22].
فما العمل؟
يرى أركون أن على من يقوم بهذا التحليل السيميائي مهمتين:
- "الأولى: أن يتزود بتكوين علمي ويحيط بالأرضية المفهومية الخاصة باللسانيات والسيميائيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد الإبستمولوجي".
- "الثانية: أن يتدرب على التمييز بين الاحتجاج والإدراك والتأويل والتفسير الذي يتم في الإطار المعرفي الدوغمائي وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني. فهذان شيئان مختلفان" [23]. وهذه دعوة من أركون للقطيعة مع القراءة التيولوجية الإيمانية التي سادت في التراث التفسيري بمختلف أنواعها.
هذا، وأشير إلى أن دعوة أركون هي في عمقها تطبيق لقواعد النقد الأعلى والأدنى على القرآن الكريم. من هذه القواعد:
1 - لا بد للباحث أن يستخدم قاعدة الشك المنهجي، فلا يجزم بشيء يتعلق بالراوي إلا بعد التثبت من ذلك بأسباب قوية.
2 - دراسة البيئات السياسية والاجتماعية والأحداث التاريخية والصراعات العقدية، ومدى انعكاسها على الكاتب وبالتالي على النص.
3 - كيف جمع النص أولاً وما الأيدي التي تناولته، وما النسخ التي اشتمل عليها؟
4 - لا يؤخذ النص ككل بل يحلل إلى أجزاء ويدرك كل جزء على حدة.
5 - التحليل الداخلي الدقيق للنص للعثور على الأخطاء والاختلافات والتناقضات
6 - ملاحظة تطور الفكر العقدي من عصر إلى آخر، لاكتشاف اختلاف تواريخ كتابة أجزاء النص.
وإذا كانت هذه القواعد قابلة للتطبيق على النص البشري، فإن تطبيقها على القرآن الكريم يفترض القول إنه كتاب من تأليف بشر. وهذا ما يذهب إليه المستشرقون، فهل يوافق أركون على هذا؟
4 - ملاحظات نقدية
أعرض هنا لبعض الملاحظات التي لم يسعف السياق بإبدائها:
¥