لذلك: الخلل الذى أردت التنويه لوجوده بين أدبيات ومواعظ بعض الدعاة ليس معنياً فقط بمفهوم المصلحة .. أو استصحاب المنافع عند تطبيق الأحكام الشرعية، فالاستصحاب للمصلحة يعبر عنه معناه الإصطلاحى من كونه مصلحة هامشية وليست اصلاً، ولا خلاف حول هذا القدر من توصيف المصلحة، بل حديثى عن تأصيل منهجى شاذ يربط الأحكام الشرعية لا بأصولها الثابتة ولكن بقابلية التطبيق، استناداً لحجم المنفعة والمصلحة التى تترتب على ذلك، ومن خلال التعامل مع الواقع كمحدد رئيسى، وبموجب هذا الخلل تبدلت الأهداف، فبعد أن كان الهدف الأول والأصلى هو تطبيق الحكم فى حد ذاته بصرف النظر عن الواقع ولا قياس الأثر بحجم القبول، وهى الآفة التى تكاد تكون قد ترسخت فى مواعظ الكثيرين وأفكارهم العملية عن نصرة الإسلام و المسلمين! صار الهدف الأصلى متعدداً متشعباً يدور حول محور واحد متعدد الأسماء: مجرد "البقاء كإيديولوجية عقدية" .. أو "التواجد المقبول على الساحة الدولية" أو .. "التلميع"!!
تغير المفاهيم أدى بالبعض إلى رؤية غريبة لعرض الإسلام ووسائل تفعيل أحكامه، تأثرت كثيراً بحجم المصادرة والقمع والدناءة التى تعيشها الأمم الإسلامية الآن، مما أدى لتولد نمط دعوى جديد يتبنى -ربما دون أن يشعر- قيم ومبادئ البراجماتيزم الذى شاع وصار من أصول السياسة / الإقتصاد/ العلم التجريبى فى كل مسارات الدنيا، وأود التركيز على نقطتين فى هذا الفكر الشاذ ومدى تاثيرهما على الإسلام كدين:
1 - تعريف الحقائق: وأنها تلك المعارف التى تتشكل حسب واقع كل انسان / ايديولوجية / مجتمع بالأدوات التى تنفعه وتساعده على تحقيق وجوده وعوامل بقاءه، فالحقيقة متغيرة غير ثابتة ليس لها مرجعية يمكن سحبها على الجميع، وليس من اللازم أن تكون الحقيقة المعرفية صالحة لجلب المنافع والمصالح، وإنما الأهم هو مجموعة العوامل التى تؤثر فى بقاء المجتمع أو الفرد، تتبدل وتتغير بحسب المصلحة والمنفعة المرجوة، وهى الفكرة الفلسفية الأصلية لقصة التطور وأصل الأنواع لدارون.
وحين يرتبط هذا التسطيح والتخصيص المخل بأصول المعرفة والتى تحدد فيما بعد مصادر التشريع والحكم المجتمعى، فإننا بصدد نظام متكامل يقوم على تأصيل العوامل الخاصة بكل فرد أو مجتمع وتحويلها لمرجعية خاصة به إن كانت تحقق له المنفعة المحسوسة التى تعينه على البقاء. أما التمسك بالمراجع المعرفية الثابتة -كالدين الإلهى- فهذا يتعارض مع الفكر البراجماتى الذى يغير الحقائق حسب النفعية الحالية.
وهذا هو عين الخلل الموجود فى أفكار بعض الدعاة المعاصرين، الذين يضخمون الفروقات بين الواقع والحقائق، ثم يعطلون الأحكام أو يأولونها لثقتهم باتحالة الجمع بين الحكم الشرعى والواقع، فيرفضون هدف التطبيق كهدف وحيد!
فلا شك أن الأصل ثابت عند الجميع فى مرجعية القرءان والسنة وما أجمع عليه سلف العلماء!
ولكن التعامل مع المتغيرات الحادثة قد انفصل عن الثابت فى أمرين:
فى توصيفه الصحيح وفى قابليته واستحقاقه للحكم!
فالشق الأول -وهو ثبات المرجعية- صار من قبيل الدعوى المكررة والتى تصلح كمقدمة أو ديباجة لا أثر لها فى ما يأتى بعدها، إلا لتهيئة المستمع لحالة من القبول التلقائى لتفصيل الحكم لأن مصدره من المرجعية المقبولة، فحين يقول الواعظ "قال الله وروسوله" فهذه تهيئة تذكره بمرجعية الدين الثابتة، ثم بعد هذه النقطة يحدث الإنفصال، وتبدأ ترجمة الواقع فى ضوء جديد، فالمرحلة اللاحقة فى التوصيف: تخضع لمفهوم الواقع والموائمة وما ترفضه المسميات الحاضرة والشرائع الدولية والتقاليد الأممية!
وهو حق أريد به باطل (هذا فى أحسن حالات احسان الظن بقائله) .. لأن التبرير المنطقى الذى يسوقونه لهذه الشروط تجده مكرراً فى مصطلحات لها سلف عند المتقدمين مثل "فقه الواقع" .. "وأحكام الممكن والمتاح" .. "الموائمة"، وهى كما ذكرت توصيفات لها أصول فى الثابت الدينى، لكن حال اسقاطها على الحوادث والمستجدات تنفصل تماماً من رباطها الاصلى، وتستخدم مظلة قفز من فكر فلسفى غريب، يصف الحوادث بأنها لا تخضع للحقائق فى تطبيقها ولكن لما تمليه المصلحة المعينة على البقاء والاستمرار!
¥