ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، حاول الاستشراق اكتساب صفة " العلمية "، وبدأ يتحلى بالموضوعية، ولو بصورة نسبية، عندما تحول إلى علم قائم على النقد التاريخي، فلم تعد غايته البرهنة على ضعة العالم العربي الإسلامي؛ وإنما حاول أن يطبق المعيار النقدي على تاريخ الإسلام كما يطبقه على تاريخ فكره الخاص. ولاحظ المستشرق الألماني " رودي باريت " أنه لم تتأتَّ له هذه العلمية " إلا عندما تأكد استعداد الناس للانصراف عن الآراء المسبقة، وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتي، وللاعتراف لعالَم الشرق بكيانه الخاص الذي تحكمه نظمه الخاصة، وعندما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا " (7).
وقد تميز الاستشراق الألماني بجمع المخطوطات ونشرها وفهرستها. مع اهتمام خاص بالجانب الفيلولوجي والصوفي والأدبي، وعناية بوضع معاجم في اللغة العربية، ودراسته لجوانب الفكر العربي الإسلامي في القديم خاصة. وكان الانشغال بالنص القرآني مما تميزت به جهود الألماني عن باقي جهود المستشرقين الآخرين. وذكر د. عبد الرحمن بدوي أن أقدم ترجمة ألمانية عن النص العربي مباشرة هي ترجمة دافيد فريدرش ميجرلن، الأستاذ في جامعة فرنكفورت، وظهرت سنة1772 (8).
وعدد ترجمات معاني القرآن إلى الألمانية تصل إلى حوالي اثنتين وأربعين ترجمة. لعل آخرها ترجمة رودي باريت (1966)، وقد اعتبرت أحسن ترجمة للقرآن الكريم.
ويلاحظ أن الاستشراق الألماني تميز بحضور كثير من أعلامه بجامعة القاهرة خاصة: برجتراسر Bergstrasser ( 1886 – 1933 ) – إنو ليتمان E Littman ( 1875 – 1958 ) – جوزيف شاخت Joseph Schart ( 1902 - 1969). وفي أواخر الثلاثينيات وأوائل الأبعينيات من القرن العشرين كان من الوافدين اليهود على القاهرة الفارين من النازية الألمانية: بول كراوس Paul Kraus ( 1904 – 1944 ) – وماكس مايرهوف Max Meyerhof (1874 – 1945 ) ، وكانت لهما عناية بالفلسفة والعلوم الإسلامية.
وعُين إلى جانب هؤلاء في مجمعي اللغة العربية بالقاهرة ودمشق: كل من هارتمان Hartmann ( 1851 – 1918 )- أوجست فيشر August Fisher( 1865 – 1949) – وكارل بروكلمان Carl Brockelmann ( 1868 – 1956 ) – وهلموت ريتر Hellmut Ritter ( 1892 – 1971 )... وقد تولى المستشرق الألماني فيلهيلم شبتا W.Spitta ( 1853 – 1883 ) سنة 1875 إدارة دار الكتب المصرية، وفهرس مخطوطاتها في نحو أربعين صفحة.
وقد لاحظ بعض المتتبعين لحركة الاستشراق الألماني أنه تميز يما يأتي:
1 – حياد نسبي عن الغايات السياسية أو الاستعمارية أو الدينية. فهو في عمومه لا ينطلق من خلفيات إديولوجية استعمارية. فألمانيا لم تكن لها مستعمرات في البلدان العربية أو الإسلامية. كما أنها لم تُعنَ بنشر المسيحية، أو بالأحرى لم يترك الفرنسيون والإنجليز للألمان حرية العمل في هذا الحقل. ومع هذا، يصعب وصف الجهود الألمانية بالحياد المطلق، والموضوعية النزيهة. فهذا المستشرق الألماني رودي بارت المتوفى سنة 1982، يؤكد بموضوعية أنه " من التعسف أن يظن المرء أن في إمكانه أن يُعالج جهود الألمان على أنها مطلقة، وأن يَفصلها عن ارتباطها بالأوشاج والأربطة العالمية " (9).
فهذا المستشرق الأماني بيكر (كارل هينريخ Bekker Karl Heinrch: 1867 – 1933 ) ، مؤسس مجلة إسلام، قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في إفريقية، وقد ذكر نجيب العقيقي أنه قد استُعين به في وزاراة الخارجية (1916)، واختير وزيراً لها (10).
2 – روحه المسالمة الخالية من العدائية للعنصر العربي، وغلبة الروح العلمية التي تبتعد عن الأغراض، وتتقصى الحقائق بتجرد وموضوعية؛ حيث إن المستشرقين الألمان لم يتعمدوا تشويه الحضارة الإسلامية العربية، بل كثيراً ما نجدهم يُقدرون التراث الإسلامي العربي، ويُبدون إعجابَهم به.
3 – اهتمامه بالقديم والتركيز على دراسة التراث الإسلامي العربي وتاريخ الحضارة الإسلامية. وإذا كان الإسلام قد استقطب اهتمام المستشرقين؛ فإن ما ميز الاستشراق الألماني أيضاً هو أنه أصبح مصدراً وعمدة في الدراسات القرآنية لدى المستشرقين الأوربيين عامة (11).
ثانيا: تيودور نولدكه (1836 – 1931): لمحة عن حياته وآثاره
¥