وهم يرون: أن السياح وأمثالهم، الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدّهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مستباحي الدم، لأنهم لم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، ولأن بلادهم نفسها: محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب: أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!!.
وكذلك يقول هؤلاء عن الدول الغربية ـ التي يقيم بعض هؤلاء فيها ـ وقد أعطتهم: حق الأمان، أو حق اللجوء السياسي: لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف.
يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح: إن هذه الدول كلها كافرة، محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعا حتى يُسلموا فيَسْلَموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة، رغم نجاستها.
وهؤلاء الكفار: دماؤهم حلال، وأموالهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين.
ويذكرون هنا آيات وأحاديث: يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها: من الآيات والأحاديث، التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!.
وإن كنت لاحظت نوعا من التطور في (فقه القاعدة) ظهر في المبادرة الأخيرة التي أطلقها زعيم القاعدة أسامة بن لادن في شهر إبريل 2004م يدعو فيها الأوربيين أن يتعهدوا بالتخلي عن أمريكا وعدم التصدي لقتال المسلمين، وهو يعهد لهم ـ في مقابل ذلك ـ ألا يتعرض لهم بأذى لا في بلادهم ولا في سفاراتهم ولا في مصالحهم في الداخل أو الخارج.
وهذا يعتبر نقلة مهمة في فقه زعيم القاعدة وجماعته، فقد كانوا من قبل يرون قتال اليهود والنصارى جميعا، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهم في هذه المبادرة يكفّون أيديهم عمن كفّ يده عن المسلمين، ولم يساند أمريكا في حربها على العالم الإسلامي.
هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا في بعض البلاد من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان: ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.
وهو بلا ريب: فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب. ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية: لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطئوا فيه: في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة.
خلل مركب في فقه جماعات العنف
فهناك خلل في فقه الجهاد والنظرة إلى غير المسلمين، واعتقادهم وجوب قتال كل الكفار، وإن كانوا مسالمين. وهذا ناقشناه باستفاضة في كتابنا (فقه الجهاد) [32].
وهناك خلل في العلاقة بأهل الذمة من النصارى والأقباط وغيرهم، وما لهم من حقوق مرعية، وحرمات مصونة.
وهناك خلل في فقه تغيير المنكر بالقوة، وما له من شروط يجب أن تراعى.
وهناك خلل في فقه الخروج على الحكام، وما صح فيه من أحاديث وفيرة تقيده وتضبطه، ولا تدع بابه مفتوحا على مصراعيه لكل من شاء.
وعلينا أن نناقش ذلك كله في ضوء الأدلة الشرعية.
أزمة هؤلاء فكرية في الدرجة الأولى
لقد تبين أن آفة هؤلاء في الأغلب: في عقولهم، وليست في ضمائرهم، فأكثرهم مخلصون، ونياتهم صالحة، وهم متعبدون لربهم، شأنهم شأن أسلافهم من الخوارج الذين كفّروا عامة المسلمين، وكفّروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واستحلوا دمه، ودماء المسلمين معه، وصحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد.
قالت الأحاديث في الصحيحين: "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". [33]
فهم: صوّام قوّام، قُرّاء عُبّاد، ولكن قراءتهم للقرآن لا تجاوز حناجرهم، أي لم تدخل إلى أعماق قلوبهم وعقولهم: ليفقهوه حق الفقه، ويتعرفوا على أسراره ومقاصده، دون أن يجعلوا همهم: الوقوف عند ألفاظه وظواهره.
وقد أدى بهم هذا الفقه الأعوج إلى: استباحة دماء المسلمين الآخرين وأموالهم، حتى استباحوا دم فارس الإسلام وابنه البكر، علي ابن أبي طالب، وقال شاعرهم يمدح قاتله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
¥