تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والآن إلى الشهادة التى قدّم بها د. أحمد كمال أبو المجد للطبعة المصرية الصادرة عن "دار الشروق" من رواية "أولاد حارتنا"، وهى الشهادة التى استند إليها رجاء النقاش فى تبييض صفحة الرواية كما سبق التنويه، مما يذكّرنا بصكوك الغفران، التى كان باباوات العصور الوسطى المظلمة يصدرونها تبرئةً للمذنبين والمجرمين وضمانًا لهم بدخول ملكوت السماوات، وهم إنما يخدعون بها السُّذَّج الجهلاء فى الواقع ليس إلا. بيد أن الأستاذ النقاش ينسى أن الإسلام لا يعرف إلا غفرانا واحدا لا غير هو غفران الله لعباده. وليس لأى بشر شىء من ذلك على الإطلاق، إذ ليس فيه أن ما يحله الباباوات أو يربطونه يكون محلولا ومربوطا فى السماء. ذلك أنه ليس عندنا إلا إله واحد سبحانه وتعالى.

يقول أبو المجد: "الشهادة التي توشك، أيها القارئ، أن تتابع سطورها القليلة سبق نشرها "مقالة" في "الأهرام" في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1994، أي منذ أكثر من عشر سنوات طرأت فيها على حياتنا الثقافية والسياسية أمور جسام ازدادت فيها تجاربنا الفردية والجماعية ثراءً وتنوعًا، وأحاطت بنا على مرّ شهورها وأيامها أحداث وتطورات كبرى داخل مصر وعلى امتداد عالمنا العربي وامتداد الدنيا كلها، تغيرت بسببها نظرتنا إلى كثير من أمورنا الخاصة وأوضاعنا العامة، ووقف بسببها كثير منا من نفسه وأمته موقف المراجعة والتأمل والمجاهرة بالنقد لما يستحق النقدَ من أوضاعنا، كما ارتفعت نبرة المطالبة بالإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي، وانقدحت بسبب ذلك كله شرارةُ حوارٍ بدأ ثم تصاعد، ولا يزال دائرا بين جماعات الكتاب والمفكرين والباحثين ممن يطلق الناس عليهم: "النخبة المثقفة" التي تفكر للمجتمع كله، وتطرح بين يديه قضاياه وهمومه، وتشتغل معه بطموحاته وتطلعاته وآماله في الغد القريب والمستقبل البعيد. لذلك حين عرضت عليَّ "دار الشروق" ان تجعل "هذه الشهادة" مقدمة لرواية "أولاد حارتنا" لكاتبنا الفذ الكبير نجيب محفوظ لم أتردد في قبول هذا الاقتراح. ولكنني رأيت من الضروري أن أعيد قراءة هذه الشهادة، وأن أعيد قراءة "أولاد حارتنا" مرة اخرى حتى أستوثق من أن ما سطره القلم عام 1994 لا يزال، عند صاحبه على الأقل، صالحا عام 2006، وأن ما شهدتُ به في شأن هذه الرواية التي أحدثت في حياتنا الثقافية دويًّا ظلت أصداؤه تتردد سنوات طويلة لا يزال موضع إيماني واقتناعي. فلما فعلت ذلك بدا لي أنْ ليس عندي ما أضيفه أو أغيّره من سطور هذه الشهادة، إذ الأمر في نهايته يدور حول قضيتين لم يتحول فكري ولم يتغير في شأنهما:

أولاهما: أن من أصول النقد الأدبي التمييزَ الواجبَ بين الكِتَاب الذي يعرض فيه الكاتب فكرته ويحدد مواقفه ملتزما في ذلك بالحقائق التاريخية والوقائع الثابتة دون افتئات عليها ودون مداراة لما يراه في شأنها، وبين الرواية التي قد يلجأ صاحبها إلى الرمز والإشارة، وقد يُدْخِل فيها الخيال إلى جانب الحقيقة العلمية. ولا بأس عليه في شيء من ذلك، فقد كانت الرواية قديما وحديثا صيغة من صيغ التعبير الأدبي تختلف عن "الكِتَاب" والالتزام الصارم الذي يفرضه على مؤلفه. وفي إطار "أولاد حارتنا" فإنني فهمت شخصية "عرفة" بأنها رمز للعلم المجرد، وليست رمزا لعالم بعينه. كما فهمت شخصية "الجبلاوي" على أنها تعبير رمزي عن "الدين"، وليست بحال من الأحوال تشخيصا رمزيا للخالق سبحانه، وهو أمر يتنزه عنه الأستاذ نجيب محفوظ ولا يقتضيه أي اعتبار أدبي، فضلاً عن أن يستسيغه أو يقبله.

القضية الثانية: حرية التعبير والموقف منها. ذلك أنه مع التسليم بأن الحريات جميعها إنما تمارَس في جماعة منظمة، ولذلك لا يتأبى منها على التنظيم والتعبير إلا حرية واحدة هي حرية "الفكر والاعتقاد" بحسبانهما أمرا داخليا يُسْأَل عنه صاحبه أمام خالقه دون تدخل من أحد، حاكما كان ذلك الأحد أو محكوما، أما حين يتحول الفكر إلى تعبير يذيعه صاحبه وينشره في الجماعة، فإن المجتمع يسترد حقه في تنظيم ذلك التعبير دون أن يصل ذلك التنظيم إلى حد إهدار أصل الحق ومصادرة جوهر الحرية. ذلك أن الهدف من إجازة هذا التنظيم إنما هو حماية حقوقٍ وحرياتٍ أخرى فردية أو جماعية قد يمسها ويعتدي عليها إطلاق حرية الفرد في التعبير وتمنُّعها على التنظيم والتقييد. ويبقى مع ذلك صحيحا أن الأصل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير