تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هو الحرية، وأن التقييد استثناء تمليه الضرورة، والضرورة إنما تقدَّر بقدرها، ومن شأن الاستثناء ألا يقاس عليه أو يُتَوَسَّع فيه.

وأهم من هذا كله أن الشهادة التي قدمتها ليست رأيا لي، وإنما هي تفسير كاتب "أولاد حارتنا" لما كتبه، وبيان واضح لا يحتمل التأويل لموقفه من القضايا الكبرى التي أثارتها تلك الرواية. وهي، على كل حال، آخر ما صدر عن نجيب محفوظ، أمد الله في عمره، حول القراءة الصحيحة لـ"أولاد حارتنا" باعتبارها "رواية" للخيال والرمز فيها دور كبير، وليست "كتابا" يُقْرَأ قراءة حرفية للتعرف على موقف مؤلفه من القضايا التي يطرحها بعيدا من الرمز والخيال.

وأدعو الله تعالى أن تتسع عقولنا وقلوبنا لمزيد من حرية الكتاب والأدباء وسائر المفكرين في التعبير عن آرائهم وإطلاق مواهبهم بالصيغ الأدبية التي يختارونها دون حجر أو وصاية أو مسارعة إلى الاتهام وإساءة الظن حتى لا "تُكْتَم الشهادة" بيننا وتموت، وحتى لا تتجمد الأفكار على أطراف الألسنة والأقلام، فتُحْرَم الجماعة من زاد ثقافي وعلمي تحتاج إليه وهي تشق طريقها للانبعاث والنهضة وسط زحام حضاري وثقافي لا سابقة له في التاريخ.

نص الشهادة:

حين وقع الاعتداء الغادر على أديب مصر وكاتبها الكبير نجيب محفوظ كنت خارج مصر، وحين عدت إليها طلبت من الصديق الأستاذ محمد سلماوي، وهو من تلامذته المقربين، أن يصحبني إليه لنؤدي واجب الاطمئنان عليه ... ولكنه، وسط شواغله الثقافية، تأخر في ترتيب تلك الزيارة حتى عاد الأستاذ نجيب محفوظ إلى بيته قبل أيام من عيد ميلاده الذي شاركه في الاحتفال به كثيرون من محبيه ومقدريه. وإذا بالأستاذ سلماوي يتصل بي ليخبرني أنه رتب للزيارة موعدا في الخامسة من مساء اليوم التالي، وأننا سنذهب في صحبته، ومعنا المهندس إبراهيم المعلم، الذي تربطه ووالده بالأستاذ نجيب محفوظ علاقات ود قديمة وموصولة، ومعنا كذلك الإذاعي والإعلامي المخضرم أحمد فراج.

وعلى باب نجيب محفوظ استقبلتنا بالحفاوة المصرية المعهودة السيدة الفاضلة زوجته، ثم جاء الأستاذ نجيب محفوظ في خطوات ثابتة طمأنتنا على قرب اكتمال شفائه، وأخذ يرحب بنا في ود شديد، ثم جلس بيننا. وسادت فترة من صمت قصير، لأن أحدا منا لم يُعِدّ لهذا اللقاء أكثر من كلمات السؤال عن الصحة والتهنئة بعيد الميلاد. ثم بدا لي على غير ترتيب ولا إعداد أن أقطع هذا الصمت، فوجدتُني أقول: يا أستاذ نجيب، الجالسون معك الليلة كلهم من قرائك. جيلنا كان يجد في كتاباتك ورواياتك شيئا بين فن الأدب وفن التصوير، وذلك بما نسجتَه في وصف القاهرة وحياة أهلها ونماذجهم المختلفة من وَشْىٍ دقيقٍ عامرٍ بالألوان مليءٍ بالتفاصيل حتى ليكاد القارئ يسمع فيه أصوات الناس ويرى وجوههم ويتابع حركتهم في شوارع القاهرة وأزقتها ومساجدها ومقاهيها، ويكاد دون أن يشعر يدخل طرفا في علاقات بعضهم ببعض. وكم من مرة تعرف بعضنا على أحياء القاهرة وشوارعها بما كان قرأه عندك في وصفها وتصوير حياة أهلها. وأضفت: ثم إنك، يا أستاذ نجيب، تظل في خواطرنا، قبل كل شيء وبعد كل شيء، كاتبا وأديبا مصريا خالصا لم تدجَّن كتاباته وآراؤه بتأثيرات غريبة تنال من نكهتها المصرية ومذاقها العربي الأصيل.

وبدا من قسمات وجه الأستاذ نجيب محفوظ وحركة يديه أنه يقبل هذا الوصف له ولكتاباته وأنه يرتاح إليه. فشجعني ذلك على أن أتقدم في الحوار خطوة أخرى، فقلت: ويبقى أن نسألك عن رأي عَبّرْتَ عنه منذ أسابيع قليلة حين بعثتَ برسالة وجيزة إلى الندوة التي نظمتها "الأهرام" تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي". فقد قلتَ للمشاركين في الندوة: إن أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام وعلى العلم. ولقد وصلت رسالتك، على قصرها، واضحة وصريحة ومستقيمة لا تحتمل التأويل. ولكن يبقى، ونحن معك نسمع لك وننقل عنك، أن نزيد هذا الأمر تفصيلاً نحتاج جميعا إليه وسط المبارزات الكلامية التي يجري فيها ما يستحق الحزن والأسف من ألوان تحريف الكلام وتزييف الآراء والافتئات على أصحابها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير