تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي حماسة شديدة وصوت جهير ونبرة قاطعة انطلق نجيب محفوظ يقول: وهل في تلك الرسالة جديد؟ إن أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم والذين تحدثتُ عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام ويمارسون قيمه العليا دون ضجيج ولا كلام كثير، وكانت أصالتهم تعني هذا كله. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم. ولكنني، في كلمتي إلى الندوة، أضفت ضرورة الأخذ بالعلم، لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير أموره كلها على أساسه لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب. إن كتاباتي كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا.

وأحب أن أقول: إنه حتى رواية "أولاد حارتنا"، التي أساء البعض فهمها، لم تخرج عن هذه الرؤية. ولقد كان المغزى الكبير الذي توجت به أحداثها أن الناس، حين تخلَّوْا عن الدين ممثلاً في "الجبلاوي" وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" أن يديروا حياتهم على أرضهم (التي هي حارتنا)، اكتشفوا أن العلم بغير الدين تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن "الجبلاوي". وأضاف: إن مشكلة "أولاد حارتنا" منذ البداية أنني كتبتها "رواية"، وقرأها بعض الناس "كتابا"، والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال ... ولا بأس بهذا أبدا ... ولا يجوز أن تحاكم "الرواية" إلى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها، لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا أصلاً وهو يعبر عن رأيه في رواية. وفي ثقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة، ويكفي أن نذكر منها كتاب "كليلة ودمنة"، فهو مثلاً يتحدث عن الحاكم ويطلق عليه وصف "الأسد"، ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان، منتهيا بالقارئ في آخر المطاف إلى العبرة أو الحكمة التي يجريها على ألسنة الطير والحيوان. وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتبٍ صاحبِ رأيٍ أيًّا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته.

قلت: الواقع أنني قرأت "أولاد حارتنا" منذ سنوات عدة، وأذكر أنني تعاملت معها حينذاك على أنها رواية وليست كتابا، ولذلك تفهمت ما امتلأت به من رموز تداخل في صياغتها الخيال، ولم أتصور أبدا أن كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال أو تشير إليها تلك الرموز. ولكن الذي استقر في خاطري على أي حال وبقي في ذاكرتي منها إلى يومنا هذا والذي رأيته معبرا عن موقف كاتبها الذي يريد إيصاله إلى قرائه هو تتويح حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة "الحارة"، التي ترمز للمجتمع الإنساني، إلى الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد: "الجبلاوي" حتى وإن تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بـ"عرفة"، الذي يرمز إلى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجِّهة لأهل الحارة.

وتابع الأستاذ نجيب حديثه الأول قائلاً: إنني حريص دائما على أن تقع كتاباتي في الموقع الصحيح لدى الناس، حتى وإن اختلف بعضهم معي في الرأي. ولذلك لما تبينت أن الخلط بين "الرواية" و"الكتاب" قد وقع فعلاً عند بعض الناس وأنه أحدث ما أحدث من سوء فهم اشترطتُ ألا يعاد نشرها إلا بعد أن يوافق الأزهر على هذا النشر، ولا يزال هذا موقفي الى الآن.

قلت: إنني أتمنى، يا أستاذ نجيب، أن يسمع الناس منك هذا الكلام الواضح الذي لا يحتمل التأويل، ليعرفوك منك بدلاً من أن يعرفوك من خلال شروح الآخرين. وائذن لي أن أقول انني كنت واحدا من الذي يجدون هذه المعاني التي حدثتنا بها الآن حاضرة في ثنايا كثير من كتاباتك القديمة والجديدة، وكانت تعبيرا دقيقا عن منهج جيلنا وجيل آبائنا في فهم الإسلام. فقد كانوا، وكنا معهم، نتنفس الإسلام ونحيا به في هدوء واطمئنان دون أن نملأ مجالسنا ومجالس الآخرين بالكلام الكثير عنه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير