تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بـ"عرفة"، الذي يرمز إلى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة". فهو يقول فى بداية كلامه: "لم أتصور أبدا أن كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال أو تشير إليها تلك الرموز"، ليعود فى التو واللحظة فيقول عكس هذا تماما، إذ يؤكد أن "موقف كاتبها الذي يريد إيصاله إلى قرائه هو تتويج حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة "الحارة"، التي ترمز للمجتمع الإنساني، إلى الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد: "الجبلاوي" حتى وإن تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بـ"عرفة"، الذي يرمز إلى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة". فهو ينفى مرة أن تكون للكاتب فكرة يريد إيصالها من وراء الرواية، ثم عقب هذا مباشرة نجده يؤكد أن هناك فكرة يريد الكاتب إيصالها لنا من وراء الرواية. وبطبيعة الحال لا يوجد أديب، فضلا عن أن يكون ذلك الأديب من كتاب الروايات، يكتب دون أن يضع فى حسابه التعبير عن فكرة ما ونشرها بين الناس، وإلا ما كان أديبا بل عابثا من العابثين. ومن هذا يتبين لنا أن د. أبو المجد لا يدرك معنى الإبداع الأدبى ولا أهميته بوضوح.

ولنتنبه كذلك إلى أنه لا يفسر الرواية تفسيرا يختلف عن التفسير الذى قلناه من قبل، اللهم إلا فى تأكيده أن الجبلاوى هو الدين لا رب الدين، وهو ما لا يستقيم أبدا حتى لو استعنّا على ذلك بالطبل البلدى ومزيكة حسب الله السادس عشر فوق البيعة، فالدين لا يمكن أن يكون له أبناء وأحفاد على أى وضع، كما أنه لا معنى لأن ينهال عليه إدريس وقدرى بالشتائم واللعنات على النحو الذى نراه فى الرواية بوصفه كائنا عاقلا يصح شتمه ولعنه واتهامه بالقسوة والتصلب وانعدام المشاعر الطيبة. فالدين حتى لو شخصناه يظل معنى من المعانى لا كائنا حيا واعيا له مشاعر ومواقف، فضلا عن أن تكون تلك المشاعر هى القسوة المفرطة غير المسوغة، وأن تكون تلك المواقف هى التصلب الغبى الذى لا يلين ولا يعرف التفاهم أو التسامح. كما أن هذا التفسير يتناقض مع ما أكده نجيب محفوظ فى رسالته المشهورة إلى جورج طرابيشى، ومع ما قاله سكرتير الأكاديمية السويدية فى حفل توزيع الجوائز عام 1988م الذى تسلمت فيه بنتا محفوظ جائزته، وكذلك مع ما قاله الأدباء والنقاد الذين كتبوا عن الرواية عند صدورها، ومع ما لا يزال يقوله كذلك حتى الآن كثير من الأدباء والنقاد.

صحيح أن محفوظ قد اتفق وأبو المجد فى هذا التفسير، أو فلنقل: إن الدكتور أبا المجد قد ردد ما قاله محفوظ، إلا أننا لا يمكن أن ننسى أن هذا رأىٌ جَدَّ لمحفوظ تبعا لما جَدَّ على الساحة، وليس هو رأيه الأصيل. ولسوف نرى أن محفوظا يقر بأن "الجبلاوى" هو فعلا الإله، وإن حاول تخفيف الأمر بقوله إنه الإله فى عقول بعض الناس الذين انحرفوا بفكرة الألوهية عن مفهومها الصحيح. لكن من هم أولئك الناس؟ وأين فى الرواية هذا المعنى الذى يقول؟ لا شىء. لا شىء على الإطلاق! والمهم أنه لم يقل، كما حاول الدكتور أبو المجد أن يقنع قراءه، إن الجبلاوى هو الدين. ولنفترض المستحيل ولنقل إن الجبلاوى هو الدين، فهل يحل ذلك المشكلة؟ ترى هل يصح أن يلعن أبطال محفوظٍ الدينَ ويسبوه بكل هذا الغل والوحشية وكأنه قتل أباهم واغتصب أمهاتهم وأزواجهم وبناتهم وهدم بيوتهم وشردهم واستولى على كل ما يملكون؟ إنى لأشعر كأن هناك ثأرا بائتا بين الكاتب والجبلاوى ينفّس عنه من خلال ما يقوله إدريس وقدرى فى حقه، فإبليس فى القرآن لا يتطاول على الله أو على دينه أبدا، وكل ما هنالك أنه يعترض على أمر الله له بالسجود لآدم رغم أن الله خلقه من نار، وآدم من طين، ويعلن عزمه عى الاجتهاد فى إغواء آدم وذريته إلى يوم الدين. ثم ليس هناك بعد هذا شىء آخر من التجاوز فى حق الله أو دينه، فما معنى كل تلك اللعنات والشتائم التى تنصب انصبابا من فم إدريس على الجبلاوى ويتفنن كاتبنا فى حشو فم ذلك الرجيم بها؟ الحق إنه لمن الوضوح بمكانٍ مكينٍ مدى التخبط الذى يكتنف أية محاولة للتعمية على مقصد الرواية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير