تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ترى لو كان الرسول كاذبًا فما الذي يضطره لتحمل كل هذا العناء والاضطهاد والاستهداف لعدوان قوى الشر وتآمرها عليه؟ إن آية صدقه أنه ظل وفيًا لعقيدته رغم هذه المحن المتلاحقة، سواء في حالة الضعف والتعرض للإيذاء أو في حالة القوة والمقدرة على رد العدوان، فلم يهن ولم يتبدل. ولو كان كاذبًا لنكّل عن هذا الطريق بعد قليل. ومع ذلك فإن المستشرقين يأبون إلا أن يتهموه في قوة إيمانه برسالته وبالوحدانية المطلقة التي هي محور هذا الرسالة، متشبثين في ذلك تشبثًا غريبًا برواية ضعيفة لا تثبت على محك النقد التاريخي أو المنطقي تزعم أنه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام قد قدم لقومه بعض التنازلات المتعلقة بعقيدة الوحدانية بُغية كسبهم على صفه، وذلك بعد ما يئس من أن يتبعوا دينه على ما هو عليه من عداء للأصنام والوثنية، فأورد آيتين يمجد فيهما اللات والعزى ومناة ويعلن أنها مناط الشفاعة يوم القيامة. ويستبعد «ألفريد جيوم» أن تكون هذه الرواية مصنوعة، وإلا كان معنى ذلك أن المسلمين قد أرادوا الإساءة إلى الإسلام والرسول، وهو ما يستبعد العقل صدوره من المسلمين المخلصين كما يقول (27). أما «مكسيم رودنسون» فإنه يورد القصة بشيء من التفصيل بناء على بعض المرويات الإسلامية، ثم يعقب عليها بقوله إن القرشيين عندما سمعوا هذه الآية (يقصد هاتين الآيتين) سُروا سرورًا عظيمًا وسجدوا جميعًا مسلمين ومشركين (28).

وقبل أن نناقش هذه الآراء أحب ألا تفوتني الإشارة إلى أن بعض المستشرقين، مثل «كايتاني»، المستشرق الإيطالي، قد رفضوا قبول هذه الرواية (29)، وهو ما يأخذ به المسلمون بعامة، وبخاصة المعاصرون منهم: تقليديوهم وعقلانيوهم على السواء (30). والآن إلى مناقشة هذه الرواية. وأول شيء أفضل أن أتناوله هو ما ساقه «جيوم» مما ظنه حجة قاطعة على صحتها، إذ ما أدراه أن المسلمين المخلصين هم الذين وضعوا هذه القصة؟ إن ابن إسحاق بن خزيمة قد عزاها دون تردد إلى بعض الزنادقة (31)، علاوة على أنها لم ترد في «ابن هشام» ولا في أي من كتب الصحاح على هذا النحو. ومع ذلك فإني لن أعتمد على شيء من هذا. إنما سأعتمد على التحليل المنطقي لمضمون الرواية ذاتها وللملابسات التاريخية التي أحاطت بأحداثها، وهو منهجي العام في هذه الدراسة بل في كل ما أكتبه عادة. إننا لو أعدنا قراءة ما كتبه «رودنسون» في هذه المسألة فسنجد أن المسلمين والمشركين جميعًا لدى سماعهم هاتين الآيتين قد خروا على الأرض سجدًا بهجة وسرورًا. وإني في الحقيقة لا أدري كيف ولا لِمَ يسجد هؤلاء أو أولئك عند هاتين الآيتين: فأما المشركون فإني لم أقرأ قط أنهم كانوا يسجدون لأصنامهم. وإليك القرآن، وإليك «ابن هشام»، وقد تناول عبادة الأوثان في جزيرة العرب بالتفصيل، وإليك كذلك «ابن الكلبي»، الذي خص هذا الموضوع بكتاب مستقل وهو «الأصنام» وقلّب هذه المصادر كلها على مهل كما يحلو لك، فلن تجد أن مشركًا قد سجد لصنم. لقد كانوا يطوفون بالحجارة والأصنام والكعبة. وكانوا يبنون البيوت لهذه الأصنام ويعينون لها السدنة، ويهدون إليها، ويتقربون إليها بالذبائح، ويقسمون لها من أنعامهم وحرثهم، ويحجون إليها ويحلقون رؤوسهم عندها، ويتمسحون بها، ويجعلون ما حولها حمى، ويستقسمون لديها بالقداح، ويقسمون بها ويتسمون بعبد اللات وعبد مناة. . إلخ. ولكن لم يرد في أي منهم أنهم كانوا يسجدون لصنم أو وثن ولا حتى في الكعبة. فإذا كانوا لا يسجدون عندها فكيف سجدوا إذن عند مجرد سماعهم أسماء اللات والعزى ومناة في آية قرآنية؟ والمسلمون: ما الذي يجعلهم يسجدون عند ذكر هاتين الآيتين؟ إن هاتين الآيتين ليستا موضع سجدة، ومواضع السجدة في القرآن معروفة ولها قاعدتها التي لا تنطبق على هاتين الآيتين ولا على الآيات التي نزلت بعد ذلك، بناء على هذه الرواية لتنسخها. والعجيب أن «رودنسون»، الذي تحمس تحمسًا شديدًا لنقل هذه الرواية وما جاء فيها من أن القرشيين جميعًا، مسلمين ومشركين، قد سجدوا لدى سماعهم هاتين الآيتين، يعود بعد أقل من صفحة فيعزو رجوع «محمد» عليه السلام عن هذا التخاذل إلى تمرد المسلمين وحنقهم، وهو ما لم يحدث. فهل ثمة اضطراب في الرواية أشنع من ذلك؟ (32) هذا على الرواية كما عرضها «رودنسون»، أما الدكتور «هيكل»، فيقول إن الرسول بعد أن تلا الآيتين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير