تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

موضوع بحثنا مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها. هنالك سجد القوم جميعًا لم يتخلف منهم أحد، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبًا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم (33). فالسجود إذن، على هذه الرواية، لم يقع إلا في آخر السورة، أي عند قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} لا عند سماع الحاضرين الآيتين المشار إليهما. وهو على هذا النحو مفهوم من المسلمين، أما من المشركين فكلا، إذ إنهم لم يتعودوا السجود لأصنامهم ولا لله، وليس يعقل أن ينقلبوا هذا الانقلاب الفجائي لمجرد أن «محمدًا» عليه الصلاة والسلام ذكر بعض أصنامهم بخير. على أن هذا، برغم كل شئ، لا يهمني كثيرًا، بل المهم هو أن السورة كلها من أول آية فيها إلى الآية الأخيرة ترفض هاتين الآيتين بعنف كما يرفض الجسم عضوا غريبًا عنه لا يمكنه التفاعل معه. إن الدكتور هيكل يرد هاتين الآيتين لأن الآيات التي تتلوهما تجري هكذا: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}. وهي، كما ترى، تعيب هذه الأصنام، فكيف يتعاقب مدح وذم على هذا النحو؟ (34) والحقيقة أنه لا يُسْتَبْعَدُ أن يرد موردو هذه الرواية ومشايعوهم بأن هذه الآيات الثلاث إنما جاءت في موضع الآيتين المشار إليهما فنسختهما، ولم تكن موجودة منذ البداية (35). ومن ثم فإني لا أعول كثيرًا على التناقض بين الآيات المتعاقبة التي تتحدث عن اللات والعزى ومناة مدحًا وقدحًا قدر تعويلي على تحليل مضمون السورة كلها والجو النفسي الذي يخيم عليها من مفتتحها إلى مختتمها، وهو جو عداءٍ مستحكم بين الرسول وقومه: فالآيات (1 - 18) ترد على تكذيب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام ورميهم إياه بالضلالة والغواية واتِّباع الهوى. وإن القارئ المتذوق ليلمح عنف الرد في قسمه سبحانه بـ {النجم إذا هوى}، الذي يشير في رأيي إلى تهديد القرآن لمشركي مكة بأنهم سيلاقون مصير النجوم حين تنخلع من مداراتها التي كانت مستقرة فيها على مدى الأحقاب المتطاولة وتهوى متبددة في الفضاء اللانهائي. كذلك يتبدى عنف الرد في التفصيل الذي تحدثت به الآيات عن تجلي الوحي للرسول، وفي تعدد الصفات التي وُصِفَ بها جبريل عليه السلام، وفي إعادة التأكيد على أن ما رآه «محمد» عليه الصلاة والسلام حين نزول الوحي عليه إنما هو حقٌّ لا مرية فيه. ولا يفوتَنَّ القارئ إشارةُ الآيات الأخيرة من هذه المجموعة (13 – 18) إلى حادثة المعراج، وهي الحادثة التي كذب بها أهل مكة تكذيبًا شديدًا. وإذا قفزنا فوق الآيات التي تتحدث عن الأصنام الثلاثة، فإننا سنجد أن الله عز وجلَّ ينفي أن يكون لملك من الملائكة أية شفاعة إلا بعد إذن الله ورضاه، ثم تعود الآيات فتتهكم بمن يؤنثون الملائكة بلا علم أو تثبت، وتأمر الرسول بالإعراض عنهم لتوليهم عن ذكر الله ولهاثهم وراء الحياة الدنيا (36). أما الآيات (33 – 58)، فإنها تتحدث عن أحد القرشيين المفتونين بثرواتهم والباخلين مع ذلك بها، وتقرعه تقريعا شديدا، مسفهةً اعتقاده المنحرف في الجزاء والمسئولية الأخلاقية، ومهددة إياه بمثل مصائر عاد وثمود وقوم نوح، ومعلنة بصوت مجلجل أن هذا ليس إلا نذيرًا من النذر الأولى وأن ساعة الغضب الإلهي والعقاب المزلزل قد دنت. ثم تنتهي السورة بالتعجب من تكذيب قريش للرسول وللقرآن وتصلُّب قلوبهم حتى إنهم ليضحكون ولا يبكون، وتأمرهم أمر تقريع وتهديدبأن {اسجدوا لله واعبدوا}. أيمكن أن يرد في مثل هذا السياق الفكري والنفسي آيات تمجد بعض آلهة قريش؟ إن ذلك هو المستحيل بعينه. ثم لو قبلنا جدلا أن هذا ممكن، فكيف فات قريشًا أن السورة جمعاء هي حملة عنيفة عليهم وعلى موقفهم من الدعوة الجديدة وتسفيه لعقولهم وتهديد جليٍّ لهم، وانخدعوا ببعض كلمات معسولة عن آلهتهم وسجدوا مع المسلمين؟ فهذه واحدة. والثانية أن الآيتين المزعومتين تجعلان الآلهة الثلاث مناطا للشفاعة يوم القيامة، وهو ما لم يسنده القرآن على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير