تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا النحو لأي كائن مهما تكن منزلته عند الله. ولماذا نذهب بعيدًا وثمة آية في سورة «النجم» ذاتها لا يفصِلُها عن الآيتين المزعومتين إلا خمس آيات جدُّ قصيرة، نصها كالآتي: {وكم من مَلَكٍ في السموات لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى؟} (النجم/26). فكيف يقال هذا عن الملائكة في ذات الوقت الذي تؤكد فيه إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة السالف ذكرها جديرة بالرجاء من غير تعليقٍ لها على إذن الله؟

أما النقطة الثالثة فهي أن الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم لم يكن من شيمته التردد حتى يقال إنه قد تذبذبت قدماه في منتصف الطريق وتراجع عن بعض مبادئه. إن صلابة استمساكه بدينه لهي مضرب المثل في صفاء اليقين والشجاعة المثلى. بل إنه لم يؤثر عنه مثل هذا التذبذب ولا في الحرب حيث يعيد الإنسان دائمًا حساباته. ولقد رأيناه (وقد لبس لأمَتَه ووافق على الخروج لملاقاة مشركي قريش خارج المدينة عندما عزموا على مهاجمتها في غزوة أحد، وكان يرى البقاء فيها والتحصن بداخلها) يرفض الرجوع حين أبدى الندم من خالفوه في التحصن داخل المدينة، قائلًا قولته الشهيرة: «ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» (37) فما عدا إذن مما بدا؟ ومن قَبْلُ ترجَّاه عمه أبو طالب أكثر من مرة أن يخفف من موقفه تجاه الأصنام وعُبَّادها فرفض رفضا قاطعا وصاح قائلًا: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» (38). أفبعد أن عضده عمه كل هذه المدة، وبعد أن وقف معه بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمُهم وكافرهم (إلا أبا لهب) وتحمَّلوا من أجله قسوة الحصار والمقاطعة في الشِّعب شهورًا عددا، يتراجع هو هذا التراجع المشين؟ ومتى؟ بعد أن أعزَّ الله الإسلام بدخول اثنين من صناديد مكة فيه: «عمر بن الخطاب» (39) وحمزة بن عبد المطلب، وأخذ يفشو بين القبائل. ثم ما الذي دفعه إلى هذا التنازل وقد أتاه عتبة بن ربيعة موفدا من زعماء قريش يعرض عليه، على طبق من ذهب، المال والرئاسة فرفض أن يجيبه، مكتفيًا بقراءة صدر سورة «السجدة» بآياته التي زلزلت قلب عتبة حتى لقد رجع إلى أصحابه بوجه غير الذي انصرف به عنهم؟ (40) إن الرسول لم يتساهل يوما في مسألة التوحيد، حتى ولا عندما كانت العرب تتهاوى أمام دعوة الإسلام قبيلة إثر قبيلة، واتضح تماما أن دين الله غالب لا شك في ذلك. لقد أعفى قوما من الالتزام بخمس صلوات كاملات، ولكنه لم يوافق ثقيفا على أن يبقي لها وثنها ولو شهرًا واحدًا يستطيع بعده أن يفعل به ما يشاء (41). إنه لم يشأ التدرج في هذه المسألة مع ما عُرِف عنه من أنه كان كثيرا ما يأخذ الناس به. فإذا كان لم يوافق على شئ من ذلك، وهو أقل ألف مرة من تمجيده بنفسه وفي قرآنه اللات والعزى ومناة واعترافه بأن شفاعتهن مرتجاة، وكان ذلك في أواخر حياته وتمكُّن سلطانه واطمئنانه إلى أنه لا ردة بعد ذلك إلى الوثنية، فكيف مالأَ الكفار على وثنيتهم وهو لا يزال في أول الطريق وكله حماسة ونار مشتعلة؟ ثم أيكون أتباعه يستمدون منه الثقة والإيمان والصبر على البلاء؟ لقد صمدوا في وجه المؤامرة التي دبرها لهم رسولا قريش عند النجاشي وبطارقته، إذ جئ بهم ليعرضوا على الملإ في البلاط الملكي دينهم وعقيدتهم في عيسى عليه السلام فلم يكتموا منها حرفا وهم الأغراب المشردون المحتاجون إلى تملق مشاعر مضيِّفيهم ولو عن طريق التعبير الروَّاغ عن رأي الإسلام في المسيح صلوات الله وسلامه عليه.

لقد ذكر ابن السائب الكلبي في الصفحة التاسعة عشرة من كتاب «الأصنام» أن قريشًا كانت تطوف بالكعبة وتقول: «واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، وأنها كانت تعتقد أنهن بنات الله (عز وجل عن ذلك)، وأنهن يشفعن إليه، فلما بعث الله ورسوله، أنزل عليه: {أفرأيتم اللات والعزى*ومناة الثالثة الأخرى*ألكم الذكر وله الأنثى*تلك إذن قسمة ضيزى*إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}. والحقيقة أن هذا هو الأشبه بأن يكون هو الصواب. ويبدو أن أحد الزنادقة قد أخذ هذه الرواية وحرفها، واضعًا كلام قريش في أصنامها على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام. ولنفترض أننا بعد هذا كله قد ضربنا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير