تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عُرْضَ الحائط بكل هذا التحليل التاريخيّ والنصيّ، وقلنا إن هذه الآيات قد جرت فعلا على لسان الرسول، فهل يعني ذلك تذبذبا في إيمانه؟ أم هل الأحرى أن نفسها بأنها زلة لسان مما نقع فيه جميعًا كل يوم، وعذره أن هذه الكلمات المزعومة، من كثرة ما كان القرشيون يرددونها أمامه، قد علقت بذهنه فجرى بها لسانه في لحظة من لحظات السهو ولكنه سرعان ما تنبه لها فتراجع عنها قبل أن تلصق بدينه؟ أقول هذا برغم تفنيدي لها، وذلك قطعا للطريق على ذوي اللجاجة المكابرين. ولكي أخفف المسألة على ضمير المسلم أذكره بزلة اللسان التي وقع فيها أحد المؤمنين الأتقياء، وكانت قد ضلت ناقته كما جاء في الحديث الشريف، فلما وجدها انطلق لسانه ليشكر ربه، الذي ردها عليه، فإذا به من شدة الفرحة يضطرب قائلًا: «شكرا يا عبدي! أنا ربك»، والمقصود العكس طبعًا. وهي، لو حاسبناه على طريق المستشرقين، أفدح من زلة اللسان المفترضة في رواية الغرانيق.

فإذا انتقلنا إلى المرحلة المدنية، وهي التي يتهمه من يسلِّم من المستشرقين بصدقه وأمانته في النصف الأول من تاريخ الدعوة بأنه اطَّرح عن ضميره فيها مؤنة الصدق والأمانة، وجدنا أن أهم ما اتُّهم به صلى الله عليه وسلم به هو قسوته على اليهود، وعدم احترامه للمعاهدات التي عقدها مع المشركين، وتساهله (مرة أخرى، لاحِظْ) في قضية الوحدانية، إذ أبقى في فريضة الحج على بعض الشعائر الوثنية، ثم الانغماس في شهوات الجنس.

فأما بالنسبة لموقفه من اليهود، فقد أدخلهم عليه الصلاة والسلام في المعاهدة التي عقدها مع كل الأطراف الموجودة في المدينة آنذاك وسوَّى فيها بين الجميع، وألزمهم أن يكونوا يدًا واحدة على من يريدهم بشر. ولم تكن هذه التسوية، بالنسبة لليهود، مع غيرهم من سكان المدينة فقط، بل مست أيضًا علاقتهم بعضهم ببعض، إذ كانوا في الجاهلية، قبل أن يقدم عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، متعادين منقسمين يرى فريق منهم أن له فضلا وعلوًّا على إخوان الدين والوطن حتى في الديَّات، فأبطلت المعاهدة هذا كلَّه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبرهم على الدخول في الإسلام، تبين لنا كيف أن ما ابتُلي به الرسول والمسلمون من قِبَلِ هؤلاء القوم من غدر كان سَخَفًا شديدًا فوق كونه خيانة لا تغتفر. ولقد كان الرسول رحيما مع بني النضير وبني قينقاع، فاكتفى بالعقوبات المالية إلى جانب الطرد، إلى أن جاء دور بني قريظة، وكانت جريمتهم هي الخيانة العظمى، إذ انقلبوا أثناء حرب الخندق على المسلمين برغم أُخُوَّة الوطن وبرغم المعاهدة الوثيقة التي كانت تربطهم بهم، يريدون أن يستأصلوا شأفتهم ويمحقونهم مع دينهم محقًا، مع أن هذه المعاهدة كانت توجب عليهم أن يحاربوا مع المسلمين (42)، فما الذي كان ينبغي على الرسول أن يفعله؟ هل كان عليه أن يربت على ظهورهم ويعتذر لهم عمَّا ارتكبوه من خيانة بشعة في حقه وحق دينه وحق المسلمين؟ إن أحد المستشرقين مثلًا يتعجب كيف أن دينًا يدعي أن إلهه هو الرحمن الرحيم يفعل ببني قريظة ما فعله الرسول (43). فمن الجدير إذن بأن يشعر تجاهه هذا المستشرق بالرثاء؟ إنهم المسلمون بكل تأكيد، الذي لو، لا قدر الله، استطاع اليهود تنفيذ خطتهم التي اشتركوا فيها مع قوى الشرك والوثنية من جميع أرجاء الجزيرة العربية وقضوا على المسلمين، ما رأينا من هذا الكاتب دمعة تُذْرَف، بل ابتسامة تشفٍّ وابتهاج. إنَّ المستشرقين يدَّعون دائمًا (كذِبًا) أنَّ التوحيد عند اليهود أظهَرُ منه في الإسلام وأصفى (44). أتعرف ماذا كان اليهود فاعليه بموجب حكم التوراة (التي أوحاها إلى نبيِّهِم إلهُهُم الذي يوحِّدونه، على هذا الزعم، خيرًا مما يوحِّدُ المسلمون ربَّ العالمين) لو أنهم هم الذين انتصروا وفتحوا بلاد المسلمين؟ تقول التوراة: «حين قرب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الربُّ إلهك إلى يديك، فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكلُّ ما في المدينة، كل غنيمتها، فاغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربُّ إلهك. وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا». وهو ما لا ينطبق على المسلمين، لأنهم لم يكونوا بالنسبة لليهود،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير