تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الذين يجاورونهم في نفس المدينة، من الأمم البعيدة، بل ينطبق عليهم الآتي: «وأما هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبقِ منهم نسمة ما» (45). أفلا يرى القارئ أن إله المسلمين كان رحيما باليهود حتى بمقياسهم؟ فما الذي أنسى المستشرق البريطاني هذا وجعله أكثر ملكيةً من الملك؟ إنَّ واحدًا من اليهود على الأقل، هو «عمرو بن سعدي»، رفض أن يشاركهم في غدرهم الدنيء وقال: لا أغدر بمحمدٍ أبدًا (46). وهو موقف رجوليٌّ كريم، إذ إنه لم يشأ أن يغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين لم تُؤْثر عنهم غدرة ولو تافهة في حقِّ اليهود. ولكي يرى القارئ مبلغ دناءة القوم وغبائهم وجبنهم ساعة الجدِّ، وإن انتفشوا انتفاش الدِّيَكَة حين يتوهمون أنهم في مأمن، أذكرُ له أن أحدهم، وهو كعب بن أسد، حين فرغ لهم الرسول عليه السلام، بعد انفضاض الأحزاب من حول المدينة، وحاصرهم، عرض عليهم أن يسلِّموا أو على الأقل أن يكونوا رجالًا ويخرجوا على المسلمين مباغتة من داخل الحصن فيحاربوهم مواجهة، لكنهم رفضوا ذلك كله، فما كان منه إلا أن قال حانقًا: «ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا» (47). وهنا العجب كل العجب، بل هنا عبرة العبر يستخلصها الباحث الموضوعيُّ من الصراع بين الإسلام واليهود. تُرى لو كان اليهود مخلصين في التمسك بدينهم والكفر بمحمد، فلمَ لمْ يستعينوا بربهم كما كان «محمد» عليه الصلاة والسلام يستعين بربه ويواجهوا «محمدًا» مرة واحدة في حرب صريحة شريفة؟ لقد كان مشركو العرب، برغم وثنيتهم، أشرف منهم وأَرْجَل ألف مرة. أم ترى كان اليهود ينفذون أمر ربهم حين وضعوا أيديهم في أيدي الشرك والوثنية ليحاربوا محمدًا، الذي، حتى لو سلمنا بأنه رسول زائف، فهو على كلِّ حال يدعو إلى التوحيد ويؤمن بموسى وبقية أنبياء بني إسرائيل؟ أتراهم كانوا مصغين للصوت الخارج من أعماق ضمائرهم حين أكدوا لقريش أن وثنيتهم خيرٌ من دين «محمد» وأنهم أولى بالحق منه؟ (48) إن «إدمون باور» يدعي على الرسول الكريم أنه أكل اليهود لينقذ بأموالهم أتباعه من الفقر، وينكر أن يكون هناك دليل على خيانة بني قريظة (49). وهذا غير صحيح بالمرة، وإلا لاكتفى الرسول بإجلائهم ومصادرة أموالهم أو لأبقاهم في المدينة بعد أن يستصفي ممتلكاتهم لحساب أتباعه. أما بالنسبة للخيانة فإنهم أنفسهم لم يفكروا لحظة في إنكارها. ومن المضحك إذن أن يأتي مثل هذا المستشرق بعد تلك القرون المتطاولة ويتظاهر بأنه ملكيٌّ أكثر من الملك. وأما «ألفريد جيوم» فإنه يعزو ما فعله الرسول بهم إلى أنهم رفضوا الإيمان به وأخذوا يسخرون منه ويكثرون من مجادلته، وإلى أنهم كانوا متفوِّقين اقتصاديًّا. ثم أرجع عدم إيمانهم به إلى اعترافه بنبوة عيسى. والحقيقة أن الرسول لم يحاول قط أن يكرههم على ترك دينهم، كما أن نصَّ المعاهدة التي سلفت الإشارة إليها يؤكد حرية العقيدة الدينية (50). أما اليهود أنفسهم، فإنهم كانوا، قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، يهددون به الأوس والخزرج، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وبدينه وتراجعوا عما كانوا يقولون. ولا يمكن أن يكون هذا مجرد ادعاء من المسلمين، فإنه مسجل في القرآن الذي كان يتلى على اليهود ولم يحدث أن اعترضوا عليه (51). وهذا يبين لنا حقيقة موقفهم ودوافعهم، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم كان إذا لقي المسلمين أظهر الإسلام، فإذا خلا إلى أمثاله من اليهود قرَّعوه وطلبوا منه أن يخفي ما يعلمه من الحق (52)، كما أن بعضًا منهم كان ينتهج خطة جهنمية لتدمير ثقة المسلمين بدينهم، إذ كان يعلن إسلامه أول النهار، ولا يكاد النهار يولِّي حتى يعلن كفره (53)، أفهذا هو المقابل للحرية الدينية التي منحهم إياها الإسلام؟ أم هل هذه تصرفات أناس يعتقدون فعلًا أنهم على الحق؟ لقد كان باب الحِجاج أمامهم مفتوحًا، الحجاج العاقل لا الحجاج السفيه من مثل «إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء»، و «يد الله مغلولة»، و «لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة»، و «نحن أبناء الله وأحباؤه. . .» إلى آخر هذا الهراء الذي لا يخطر إلا في عقول الهازلين المخرفين. لكن لا عجب، فقد نزلوا في ذلك على طبيعة الغدر والنذالة المتأصلة فيهم. ومع هذا فقد آمن منهم بالإسلام صادقًا طائفة كان من بينهم بعض

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير