تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

معسكر المشركين مسلمًا لأن شرط موافقة أهله على هذا الإسلام لم يكن متوفرًا. بل إنه لم يقبل، ولو في السرِّ، أحدًا ممن أسلم من أهل مكة بغير موافقة ذويه، حتى جاء القرشيون إليه يترجَّوْنه أن يقبل كلَّ من جاءه منهم مسلمًا، إذ شكَّل الداخلون من أهل مكة في الإسلام على كرهٍ من أهليهم عصابةً في طريق تجارة قريش فسببوا لها المتاعب. ومع ذلك كله فإن المشركين هم الذين نقضوا الصلح حتى لقد اضطر أبو سفيان، بجلالة قدره، أن يفد على المدينة قلقًا مذعورًا يحاول أن يسترضي الرسول، كأن الأمر لعب عيال، فقوبل من ابنته أم حبيبة زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام مقابلة جافة، إذ رَبَأت بفراش رسول الله أن يجلس عليه أبوها الكافر. وعبثًا حاول أن يضحك على المسلمين، وكانت آخر محاولاته أن رجا فاطمة بنت رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام أن تأمر ابنها الحسن، وكان طفلًا صغيرًا يدب بين يديها، أن يجير بين الناس ليكون، على حدِّ قوله، سيد العرب إلى آخر الدهر (59)، ظنًّا منه أنه يستطيع أن يضحك على ذقنها بمثل هذا الكلام، وهو الذي أبى حتى تلك اللحظة أن يعترف لأبيها بالسيادة على العرب. فكيف يزعم زاعم، وهذه الحقائق سافرة، أنَّ الرسول قد قام بهجوم غادر على مكة بعد محاولات فاشلة سابقة؟ (60) إن المقصود هنا هو الأحداث المسجلة في أول سورة «التوبة»، مع أن الآيات هناك تغني عن كلِّ تعليق، إذ القرآن يفرق بين من وفَّى من هؤلاء المشركين بعهوده مع المسلمين، فهذا يُتمُّ إليه المسلمون عهده إلى مدته، وبين من غدر وفجر، فهؤلاء يُمْنَحون مهلة أربعة أشهر، وبعد ذلك يعاملون معاملة العدو المحارب، فأين الغدر هنا؟ (61) إن الغادرين هم المشركون، الذين حظوا مع ذلك بفترة سماح أربعة أشهر كاملة يسيحون فيها في الأرض بملء حريتهم. ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام غادرًا، فلم لم يقتل رسولَيْ مسيلمة، الذي نازعه الرسالة والسلطان، وكان الرسول في أوج سلطانه؟ لكنه عليه السلام عفَّ عن ذلك برغم تغيُّظه من صفاقة مسيلمة وصفاقة رسوليه وفداحة الأمر، إذ يريد هذا المسيلمة الذي كان قد ورد عليه قبل ذلك بقليل مع من أسلم من قومه أن يأتيَ في آخر المطاف فيهدم الصرح الشامخ الذي قضى «محمد» عليه الصلاة والسلام عمره كله يضحي من أجل بنائه ورفع سمكه عاليًا إلى السماء (62).

ونصل إلى التهمة الكبيرة الثالثة، تهمة التساهل في قضية الوحدانية أو، كما يقول بعض المستشرقين، المصالحة مع الوثنية، إذ تحول الرسول إلى الكعبة بعد أن كان يصلي نحو بيت المقدس (63). ويرميه بعض آخر بأنه زيَّف وحيًا في المدينة لربط الكعبة ب «إبراهيم» عليه السلام (64)، على حين يستغرب بعض ثالث أنه عليه الصلاة والسلام قد أبقى على الحجر الأسود، وهو شعيرة وثنية (65). ويستطيع القارئ أن يرى أن المجادلة في تحول النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس إلى الكعبة ليست إلا مماحكة فارغة (66)، إذ ما الفرق بين اتجاه المسلم إلى هذه الجهة أو تلك ما دام الأمر كله رمزًا على طاعة الله سبحانه وتعالى على وحدة المسلمين؟ هل استقبال بيت المقدس دليل على التوحيد واستقبال الكعبة دليل على الوثنية؟ ولكن لم؟ إن الله موجود سبحانه أينما تولى المؤمن، والمهم الاتفاق على وجهة ما، ويا حبذا لو كانت مهوى الأفئدة المؤمنة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هو والمسلمون بعد الهجرة زمنًا إلى بيت المقدس وقيل إن هذا كان تألفًا منه لليهود كي يجتذبهم إلى الدين الجديد، فما العيب إذن في ذلك؟ على أننا ينبغي ألا ننسى أن الرسول في صلاته في مكة قبل الهجرة كان يستقبل القبلتين معًا. يتضح ذلك من عبارة ابن هشام: «وكان رسول الله بمكة وقبلته الشام، فكان إذا صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام» (67). فما معنى ذلك؟ أليس معناه أنه كان يجمع بين التوجه إلى الكعبة وبيت المقدس معًا من قبل الهجرة؟ لكنه لم انتقل إلى يثرب، التي تقع في شمال مكة بينها وبين الشام، وكان من المستحيل الجمع بين القبلتين، ظل يصلي إلى بيت المقدس وهو يتوق إلى أن يستدير إلى الجنوب، إلى الكعبة التي بناها أبو الأنبياء «إبراهيم» وابنه «إسماعيل» عليهما السلام. فلو كان الأمر مجرد عواطف شخصية تجاه اليهود، فهل كانت عواطف الرسول نحو قريش في ذلك الوقت هي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير