تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عواطف الحب والوله حتى يتحول عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة، التي كانوا يقومون عليها؟ وهل كان موقف مشركي مكة منه صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه في ذلك الوقت المبكر (بعد 71 شهرًا من الهجرة) مما يبعث الأمل في إسلامهم كي يتبع قبلة البيت الحرام، الذي مقاليده في أيديهم؟ إن العلاقة بين الرسول عليه الصلاة والسلام واليهود لم تكن بعدُ قد تطورت إلى ما تطورت إليه من عداوة مستحكمة، فليس ثمة وجه إذن للقول بأنه تحول إلى الكعبة من تلقاء نفسه يأسًا منهم. وفضلًا عن ذلك، فلو كان الرسول قد قصد حقًا بالصلاة إلى بيت المقدس تألُّف قلوب اليهود، وإن كنت لا أرى في ذلك ما يشينه من أي وجه، فلِمَ نفر من اتخاذ البوق أداة لنداء المسلمين إلى الصلاة، وقد كانت اليهود تدعو به لذات الغرض؟ ولمَ لم يعد إلى بيت المقدس عندما عرض عليه ذلك نفرٌ من أشرافهم ليؤمنوا به (68)؟ وهنا ينبري بعض المستشرقين يتهمونه بأنه اخترع قصة زيارة «إبراهيم» لمكة وبنائه الكعبة، ناسين بذلك أمورًا ثلاثة هامة: الأمر الأول أن العرب كانوا يؤمنون بهذا أجيالًا بعد أجيال، أي النبي لم يخترع هذه القصة. وقد جاء في تاريخ «ديودورس الصقلي»، الذي كان يعيش في القرن الأول للميلاد، أن من العرب في ذلك الوقت من كانوا ينتسبون إلى «نبات ابن «إسماعيل»»، وهو ما نجده في شعر جاهليٍّ لجد الصحابي حسان بن ثابت يفتخر فيه بوراثته مفاخر نبت بن «إسماعيل» (الذي ذكر في العهد القديم). كما جاء في التوراة السامرية أن برِّية فاران (موطن «إسماعيل» كما جاء في العهد القديم أيضًا) تقع في الحجاز. ويذكر المؤرخ «سوزومين» أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي على أنهم من نسل «إسماعيل» و «إبراهيم» وأنهم من ثمَّ من ذوي رحمهم. وهناك نص لـ «تيودوريتو» من النصف الأول للقرن الخامس الميلادي يصف العرب فيه بالقبائل ال «إسماعيل» ية (69). إذن، ف «إبراهيم» عليه السلام هو جدُّ العرب، و «إسماعيل» ابنه كان يعيش في الحجاز، ومعنى ذلك أنه هو نفسه قد زار هذا الإقليم. كذلك كان الحنفاء يقولون بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شئ. لقد أخطأوا دين أبيهم «إبراهيم». ما حجرٌ نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم، التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شئ.» ويعقب «ابن هشام» قائلا: «فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين «إبراهيم»» (70). وكان «زيدٌ بن عمرو بن نفيل»، وهو أحد المتحنفين، يقول: «أعبدُ رب «إبراهيم»»، وقال يومًا وقد أسند ظهره إلى الكعبة: «يا معشر قريش، والذي نفس «زيد بن عمرو» بيده، ما أصبح منكم أحد على دين «إبراهيم» غيري» (71). والأمر الثاني هو أن المشركين كانوا قد صنعوا لـ «إبراهيم» و «إسماعيل» عليهما السلام صورة في الكعبة مع ما صنعوا من صور للملائكة وفي أيديهما الأزلام يستقسمان بها (72). وإن دلالة ذلك واضحة تمام الوضوح، وهي أن الرسول لم يخترع العلاقة بين الكعبة و «إبراهيم» عليه السلام، بل كانت العرب تؤمن بذلك إيمانًا جازمًا. وثالثًا: لو كان الرسول هو الذي زيف مثل هذه العلاقة، أو لو كان العرب واهمين فيما كانوا يعتقدون بشأنها، لما سكت اليهود وهم البارعون في إثارة الفتن، ولملأوا الدنيا ضجيجًا وعجيجًا. وأخيرًا فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد اخترع قصة بناء «إبراهيم» و «إسماعيل» عليهما السلام للكعبة، فلماذا، بدلا من ذلك، لم ينسب بناءها إلى «هود» مثلا أو «صالح» أو أي نبيٍّ عربيٍّ آخر، وبذلك يكون البيت عربيًّا وبانيه عربيًّا، مادام المقصود هو تملق العروبة لكسب قلوب مشركي مكة؟

وما قيل عن استقبال الكعبة أثناء الصلاة يقال مثله عن الحجر الأسود، فإن الوثنية لا تقوم في الأشياء أو الأفعال ذاتها، بل في العقل والضمير. والمسلمون حين يحجون إلى مكة ويستلمون الحجر الأسود لا يفعلون ذلك لأنهم يعبدونه كي يقربهم إلى الله زلفى (بل لم يؤثر عن عرب الجاهلية أنفسهم أنهم كانوا يعبدونه كما كانوا يعبدون الأصنام). إنما هو سنة من سنن الطواف، وكل ما يفعله الحاج هو أن يلمسه بيده، فإن تعذر ذلك بسبب الزحام اكتفى بالإشارة إليه من بعيد. وقد قال الرسول لـ «عمر» رضي الله عنه: «يا أبا حفص، إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن (أي الحجر)، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير