تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإلا فكبِّر وامْضِ». وقد روى ابن «عمر» أن رسول الله عليه الصلاة والسلام استلم الحجر ثم وضع شفتيه يبكي طويلا، فإذا «عمر» يبكي طويلا، فقال: يا «عمر»، هنا تُسْكَبُ العَبَرات. ومن المأثور أن يقول الحاج عند استلامه الحجر: «اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتِّباعًا لسنة نبيك، سيدنا محمد» (73). ويرى القارئ كيف أن كل كلمة وكل حركة بل كل خالجةِ إحساس تدل على الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى وحده. فهذا هو الحجر الأسود الذي يدعي كثير من المستشرقين أنه بقية من الوثنية الجاهلية. لقد كان الرسول حتى في الجاهلية ينبذ العادات الوثنية في الحج. وقد شهدت السنة التاسعة بعد الهجرة القضاء على هذه العادات السخيفة (74). إن شعائر الحج كلها، مثلها كمثل شعائر الصلاة والصوم والزكاة، هي عنوان على طاعة الله والمسارعة في مرضاته. كما أنها تعبير عن الوحدة بين المسلمين، إذ يرتبطون جميعهم على تنائي البلاد واختلاف اللغات والسِّحَن بقِبلة واحدة على كلٍّ منهم أن يحج إليها ويجتمع عندها بإخوانه المسلمين من كل صقع مرةً في العمر. ثم أكان الحجر الأسود أهمُّ من هُبَل أو بقية الأصنام الثلاثمائة والستين التي أطيح بها جمعاء غداة الفتح إلى الأبد؟

والآن نصل إلى التهمة الأخيرة، وهي الانغماس في شهوات الجنس واختراع الوحي بعد الوحي لتسويغها. والمستشرقون حين يتناولون هذه النقطة لا يلتزمون بحقائق التاريخ حتى لو كانت استنتاجاتهم خاطئة من وجهة نظرنا، بل إن بعضهم ليخترع من عنده أشياء ما أنزل الله بها من سلطان: فـ «إدمون باور» مثلا يزعم أن الرسول قد أعفى نفسه من الالتزام بحرمة زواج المحارم (75)، أما «واشنجتن إيرفنج» فإنه يدعي أن آية «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مائة جلدة. . .» (76) قد منعته عليه الصلاة والسلام من اتخاذ «مارية» حظية، فاخترع وحيًا خاصًّا به (77)، مع أن مارية كانت ملك يمين، وهذا جائز في الإسلام لأي مسلم، ولا تسبب حالتها أية مشكلة من أي نوع، فضلا عن أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أعطى «حسان بن ثابت» أختها «سيرين»، فهل اخترع له الرسول أيضًا وحيًا له؟ أم ماذا؟ ولقد أفاض الكتاب والمفكرون المسلمون في العصر الحديث في الرد على اتهامات المستشرقين للرسول عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بزواجه مما لا أجد معه ضرورة لتناول هذه المسألة، وإن كنت أرى مع ذلك أن الأمر، قبل نزول الوحي بتحديد الزوجات اللاتي يستطيع المسلم أن يحتفظ بهن في نفس الوقت بأربع، لا يحتاج كل هذا العناء، فما دام التزوج بأكثر من أربع كان قبل ذلك مباحًا، فما معنى اختصاص أعداء الإسلام للرسول عليه السلام بالنقد؟ أما احتفاظ الرسول بكل زوجاته بعد التحديد وهن أكثر من أربع، فهو الذي يحتاج إلى بيان. وإن أهم سؤال في نظري هو: أكان الأمر هنا أمر شهوة وتلفيق وحيٍ لتسويغها أم أمر سماحٍ إلهيٍّ؟ (78) وأحب أن أبادر فأقول: لقد أُثِرَ عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أُثِرَ عنه أن مما حُبِّبَ إليه من دنيانا النساء، وإن كان قد ذكر أيضًا أن الصلاة هي قرةُ عينه. لكنَّ حب الرجال للنساء، والعكس أيضًا، ليس عيبًا. إنما القضية هي: أكان الرسول متهالكا على المرأة؟ (79) إن المعروف مثلا عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يعزف عن مصافحة النساء (81). ترى لو كان شهوانيًّا، كما يحلو لأعدائه أن يتقوَّلوا عليه، أفما كان الأحرى به أن يحرص على مصافحتهن والتلذذ بلمس أيديهن الرَّخْصة واستبقائها بين يديه مدة أطول؟ بل لم شَرَّعَ الاحتشام في الملبس بحيث لا يظهر من المرأة إذا بلغت المحيض إلا وجهها وكفَّاها؟ أفما كان الأجدر بمثل هذا الرجل الشهواني كما تصوره كتابات هؤلاء المستشرقين ألا يفكر مجرد التفكير في وضع مثل هذا التشريع الذي سيوقف عينيه النهمتين عند حدهما؟ إنه عليه الصلاة والسلام لم تُؤْثَر عنه طيلة حياته، لا قبل المبعث ولا بعده، في مكة أو في المدينة، ريبة قط ولو كلمة غزل عابرة أو غامضة. وحياته الشخصية والحمد لله، واضحة وضوح الشمس ليس فيها أسرار (82). ثم إنَّ حياته عليه الصلاة والسلام كانت، بوجهٍ عام، حياة تقشف، ولم يعرف عنه اهتمام بالغذاء، بل كان يأكل ما تيسر، وكانت الأسابيع تمرُّ على بيته لا يوقد فيها نار، ولا يتعدى طعامه أثناءها التمر والماء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير