تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يطبق ذلك التشريع الجديد على نفسه ليحطم التقليد الجاهلي الذي كان يعد الابن بالتبني مثل الابن الحقيقي تماما؟

على أن هناك شيئا فات هؤلاء المسارعين إلى تصديق كل ما من شأنه أن يلطخ سمعة الرسول الأعظم محمد، وهو أن تلك الرواية المتهافتة تقول إن زواج «محمد» من زينب بعد طلاقها من زيد قد أثار زوبعة شديدة لأن الناس لم يستطيعوا بسهولة أن يهضموا زواج رجل من مطلقة ابنه، حتى لو كان ابنًا سابقًا بالتبني. أفلم يكن المنطقي إذن ألا يفكر زيد في عرض تطليق زوجته على أبيه السابق ليتزوجها ما دام الناس كانوا يستنكرون مثل هذا الزواج إلى هذه الدرجة العنيفة؟ ثم أليس من المنطقي أن ننكر نحن إمكان حدوث ذلك؟

ثم عائشة! لقد كانت زوجة غيورًا، ولو أنها أحست بشيء يحاك في الخفاء لما سكتت. ولقد سمعته عليه الصلاة والسلام يقول عن رجل جاء إلى بيته في أمر ما: «بئس أخو العشير هو!»، فلما قابله وهشَّ له وألان الكلام لم تسكت على ذلك رغم تفاهة الأمر ورغم أن هذه هي المرة الوحيدة (فيما نعرف) التي وقع ذلك فيها من الرسول عليه الصلاة والسلام وسألته عن سر هذا التناقض التافه (99) فأحرى بها هنا ألا تسكت لو شعرت بشئ مما يتقوله المستشرقون. لكن كان لعائشة الجريئة ذات الدلال على رسول الله رأي آخر، إذ قالت: لو كان رسول الله كاتما شيئا لكتم هذه (100). ذلك أنها كانت تدرك تمام الإدراك فداحة الصدمة التي سيخلفها زواج رسول الله عليه الصلاة والسلام من زينب كما مرَّ بيانه.

مما سبق يتبين لنا أن المستشرق البريطاني «مونتجمري وات» كان على حق عندما اتفق رأيه في هذه القضية مع آراء المسلمين المعاصرين، وأنه لا معني لاستغراب «مكسيم رودنسون» رأي رصيفه البريطاني هذا (101). ثم فلنفترض أن وقائع القصة كلها صحيحة، فما الذي يؤخذ على الرسول فيها؟ أيؤخذ عليه أن نظره وقع عفوا على زينب فكان لذلك تأثيره على قلبه؟ أم يؤخذ عليه أنه بدلا من أن يدخل انصرف وهو يتمتم: «سبحان مقلب القلوب»؟ أم يؤخذ عليه نهيه زيدًا أن يطلق زوجته من أجله (102)، وقوله له: «أمسك عليك زوجك واتق الله»؟ أم يؤخذ عليه أنه تزوج زينب زواجًا شرعيًّا بعد أن طلقها زوجها بملء إرادته وحريته؟ ألا يرى القارئ أن الأمر كله عراك في غير معترك، وأن ما يتقوله المستشرقون إنما هو ضجة فارغة، وأن الآية محل النقاش ليست إلا وحيا إلهيا نزل يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يكون أول من يطبق على نفسه التشريع الجديد؟

ومن دلائل صدقه عليه الصلاة والسلام في دعوته أنه كان أول الناس وأشدهم التزاما بمبادئ الإسلام عقيدة وعبادة وتشريعا. إن إيمانه بربه وشعوره بقدرته وعظمته ومجده ورحمته ونعمه وأنه محاسب عباده يوم القيامة على ما اقترفت أيديهم من خير أو شر كان يفعم عقله وقلبا وضميره، وينبجس دائما على لسانه في كل ساعة. لقد كان يدعو دائما ربه في كل وقت وفي كل مناسبة: فهو إذا استيقظ دعاه سبحانه بما يدل على تقديره نعمة الحياة ليوم جديد، وإذا أخلد إلى فراشه دعاه عز وجل دعوة المطمئن إليه المسلم له نفسه وكل كيانه. وهو إذا هطل المطر دعا، وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر صلى ودعا، وإذا أجدبت السماء صلى ودعا، وإذا سافر ابتهل إلى ربه، وإذا عاد رفع صوته بالحمد والشكران، وإذا حجَّ لبَّى ورددت تلبيته الجبالُ والفجاج والوهاد. وهو لا ينسى ربه ولا يكف لسانه عن اللهج بذكره في سلمٍ أو حرب. وهو يدعو للموتى ويدعو للأحياء في ضوء النهار وفي جوف الليل. لقد كان عليه الصلاة والسلام إذا ركب دابته هتف: «سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضْى. اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد.» وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» (103). وكان إذا قفل من الحج أو العمرة كبَّر ثلاثا كلما أوفى على ثنية أو فدفد ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» (104). وكان إذا خاف

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير