تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان عليه الصلاة والسلام عندما يصوم ويتصادف أن يكون الجوُّ شديد الحرارة لا يستنكف أن يصب الماء على رأسه، وفي هذا من التواضع والصدق ما فيه، وإلا لتظاهر بالتحمل ليكبر في أعين أتباعه، شأن المنافقين، وله فيما يستطيع أن يكرعه من ماء إذا خلا بنفسه مندوحة واسعة (120). ولست بحاجه إلى أن أشير إلى حجه وما لقى فيه سَفرًا وحِلًّا من متاعب ما كان أغناه عنها وأقمنه أن يزعم أن الله قد أعفاه منها لو أنه كان كاذبا. وكانت النية عنده هي الأساس في هذا كله، مما يدل أقوي الدلالة على أن مدار أمره كله هو الصدق والإيمان الصحيح لا مجرد التظاهر والتمسك بالشكليات (121). وكانت زوجاته في الصف الأول بين المطيعين لما جاء به عليه السلام. وانظر كيف أفطرت «عائشة» و «حفصة» يوما في صيام نفل لم يكن يعرف عنه شيئا فأخبرتاه تستفتيانه، وما كانتا بحاجة إلى ذلك لو لم يكن الإيمان قد خالط قلبيهما وغمرهما تماما. ولكنه عليه الصلاة والسلام رغم أخذه دائما بظاهر الأعمال كان يتشدد مع زوجاته. ومن ذلك أنه لم يسترح لتنافسهن في الاعتكاف في الموضع الذي علمن أنه سيعكف فيه، إذ حدث أن رأى في المسجد بعض الأخبية فسأل عنها فأخبر أنها لـ «عائشة» و «حفصة» و «زينب»، فقال: «آلبرَّ تقولون بهن؟»، ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرا من شوال (122). ولو لم يكن صادقا يتضوع الصدق من كل كيانه ونواياه وأفعاله لأثنى عليهن ساعتها أمام الناس خيرا وزعم أنهن في كل شيء نِعْمَ المثال المحتذى.

وله عليه لصلاة والسلام في هذا الباب عجائب لا تكاد تصدق: فقد سها في صلاته بأصحابه مرة، فلما نبهوه إلى ذلك لم يتمحَّل ولم يدَّع مثلا أنه لا يسهو وأن ما ظنوه سهوًا إنما كان تخفيفا من الله في هذه الصلاة بالذات لسبب أو لآخر كان بإمكانه اختراعه، بل أقر بخطئه وعاد ليكمل الصلاة بهم (123). كما سها مرة أخري في صلاته، فسجد سجدة السهو من تلقائه من غير أن ينبهه أحد (124)، وهو ما يعد اعترافًا منه تلقائيًّا بأنه يجوز عليه النسيان رغم أنه رسول ربٍّ لا يضل ولا ينسى، بل لقد قال ذلك صراحة في إحدى المرات (125). كذلك فقد حدث أن أقيمت الصلاة ذات مرة وعُدِّلت الصفوف ثم خرج النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جُنُب فقال لأصحابه: «مكانكم»، ثم رجع فاغتسل، وخرج إليهم ورأسه يقطر ماء فأمّهم في الصلاة (126). لقد كان عليه السلام يستطيع، لو كان نبيًّا مزيَّفًا، أن يصلي جُنُبًا، إذ من ذا الذي كان يعرف من المصلين أنه جنب؟ لكن حرصه على أن يرجع فيغتسل أولًا، برغم خروجه للصلاة بالناس الذين كانوا ينتظرونه وقد أقيمت الصلاة وعُدِّلت الصفوف، وبرغم ما في ذلك من إحراج ضاعفه أن في ذلك اعترافًا منه بجواز النسيان عليه حتى في مسائل الطهارة والاستعداد للصلاة، التي هي عماد الدين، هو من الدلائل القاطعة على صدقه. إن مثل هذا الرجل الذي كان يسأل الله أن يرزقه لسانًا صادقًا (127) لا يمكن أن يكون من الكذابين، وإلا فليس ثمة إنسان في الدنيا أهل للثقة إذن (128).

ولم يكن النسيان هو العرض البشري الوحيد الذي اعترف النبي عليه الصلاة والسلام بجوازه عليه، فهو لم يدّع يومًا أنه يعلم الغيب ولا حتى فيما يتعلق بمواقيت الصيام، وهو العبادة الثانية في الإسلام، إذ غمّ هلال شوال في إحدى السنين فصام المسلمون ومعهم الرسول، ليأتي في اليوم التالي من يخبرهم وهم صائمون بأن الهلال قد رُئي البارحة في مكان آخر فيفطر عليه السلام ويفطرون. وقد كان يستطيع، لو كان كذَّابًا يدعي معرفة الغيب من السماء، أن يشكك هذا القادم في رؤيته ويصر على مواصلة الصيام حتى لا يقال عنه إنه لا يعرف الغيب. ذلك أن كثيرًا من العرب في ذلك الوقت كانوا يظنون أن النبوة تستلزم هذا (129). كما أكد لأصحابه أنه إذا قضى بين اثنين فإن أحدهما يمكنه، لو أراد، أن يخدعه بالباطل إذا كان أبرع في القول من خصمه (130). كذلك لم يكن عليه السلام يدّعي أنه يعرف مصائر الموتى، بل كان يقول عن نفسه: «والله ما أدري وأنا رسول ما يفعل بي (131). ومثل ذلك أن عائشة حين رُمِيت بما رُميت به، عليها رضوان الله، لم يسارع الرسول عليه السلام، وهي زوجته ويهمه ألا يلوك الناس سيرتها، بتبرئتها، بل انتظر حتى نزول الوحي بعد وقت يعد طويلًا جدًا في تلك الظروف (132). وكان يستطيع، لو كان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير