تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كاذبًا، أن يصنع وحيًا منذ أول لحظة يُخرس به الألسنة، ويضاف إلى ذلك اعترافه بأن علمه بأمور الدنيا محدود، برغم أنه رسول الله خالق الدنيا والآخرة. وحادثة تأبير النخل مشهورة مستفيضة. ومثلها أنه هم بالنهي عن الغيلة لولا أنه نظر إلى الروم وفارس فإذا هم يغيلون فلا يضر ذلك أولادهم في شيء (133) ليس ذلك فقط، بل كانت تقع له أمور لو وقعت لغيره لكتمها خوفًا من أن تسيء إليه في نظر الناس، لكنه عليه السلام كان يصرخ بها رغم أنه لم يؤمر بتبليغها لأحد. ومنها أنه زار ذات يوم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، إلى هنا والأمر مفهوم، لكن الغريب أن يتطوع فيذكر لهم أنه استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، بينما حين استأذنه أن يستغفر لها لم يأذن. أفهذا فعل أم كلام دجال؟ (134).

ومن عجائبه في هذا الباب، باب الصدق، أنه عليه السلام لم يدّع يومًا أنه قادر على الإتيان بمعجزة، فما هو (كما كان يقول دائمًا في الرد على من يتحدونه من المشركين أو اليهود) إلا بشر رسول. ولرُب من ينبري قائلًا: وهل كان المراد أن يدّعي قدرته على صنع المعجزات حتى إذا سُئِل أن يصنع واحدة عجز وانكشف كذبه؟ إن دهاءه إذن لا صدقه وإخلاصه هو الذي منعه من مثل هذا الادعاء. وبغض النظر عن أنه لم يحاول أن يهتبل فرصة كسوف الشمس يوم موت ابنه وفلذة كبده «إبراهيم» مثلًا ويدّعي أنها آية إلهية على مشاركة الكون له في أحزانه (135)، فإنه عليه الصلاة والسلام كان بإمكانه أن ينكر وقوع المعجزات ممن تقدّمه من الرسل والأنبياء حتى يسوي بينهم وبينه في هذا المجال، وعلى من لا يصدقه أن يثبت العكس، وهو مستحيل طبعًا، فإن هؤلاء الأنبياء والرسل كانوا قد ماتوا وشبعوا موتًا منذ أحقاب متطاولة. ولا أعتقد أن أحدًا يمكنه أن يعزو عدم نفيه عليه الصلاة والسلام وقوع المعجزات من الأنبياء السابقين إلى أن ذلك كان مقررًا في العقل والنفوس، فإن ما كان قد رسخ في نفوس النصارى وعقولهم من الإيمان مثلًا بألوهية المسيح أو على الأقل بنوته لله وموته عليه السلام على الصليب تكفيرًا عن خطيئة آدم، وهما أساس النصرانية وبهدمها تنهدم من قواعدها، لم يمنعه من أن يحمل على هذه العقيدة وينسفها نسفًا، مسفِّهًا لها ولمن يتمسكون بها. ومثل ذلك وأشد صنعه مع اليهود ومع الكفار، فلماذا لم ينف معجزات الرسل الماضيين ليغلق باب التحدي والإحراج الذي كان القوم مغرمين بفتحه ظنًا منهم أنهم يفحمونه؟ لقد اعترف عليه الصلاة والسلام بمعجزات إخوانه السابقين، وفي نفس الوقت أكّد أنه ليس إلا بشرًا رسولًا وأن المعجزة مهما كانت غرابتها وشدهها للعقول فإنها لا تغني عن التأمل والنظر واستخدام العقل نعمة كبرى على الإنسان. أفهذا موقف مزيف كذاب؟ بل لقد بلغ من صدقه أنه كان يكون له في المسألة المعروضة عليه رأي ثم ينزل الوحي بغير ذلك فيعلنه ولا يكتمه، وفي ذلك ما فيه (136).

ومما ينبغي ذكره في هذا السياق أنه عليه الصلاة والسلام لم تُمسك عليه كذبة واحدة. كيف لا وقد جعل الصدق يهدي إلى البر فالجنة، والكذب يؤدي إلى الفجور فالنار؟. كذلك كان يوجه أصحابه إلى توخي الدقة في الكلام والوعود حتى إنه عند مبايعتهم له على السمع والطاعة، كان يعقب على ذلك بقوله: «فيما استطعتم» (137). كما كان يحب لأصحابه إذا مدح بعضهم أحدًا أن يقول: «أحسبه كذا» (138). ويتصل بهذا كراهيته للتكلف في العبادة (139). وقد بلغ حبه للصدق أنه لم يجوّز الكذب قط مهما كانت الظروف إلا فيما لا يمكن لعاقل صادق بالغًا ما بلغ من تحرج وتأثّم أن يدّعي أن الصدق مفضل فيه، وذلك في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها (140). وكان عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليمات أشبه الخلق جميعًا ظهرًا ببطن. وقد رأينا كيف أن عائشة، في المرة الوحيدة التي رأته يبتسم ويُلين القول لرجل لم يكن رأيه فيه طيِّبًا، لم تشأ أن تدع الأمر يمر من غير استغراب واستفسار، وهو ما يدل على أنها لم تتعود منه إلا الوضوح التام. ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قد استنكف أشد الاستنكاف أن يغمز بعينه لأحد الصحابة من حوله بعد فتح مكة ليقوم فيضرب عنق عبد الله بن سعد كاتب الوحي الخائن الهارب حين ناشده عثمان العفو عنه، واكتفى عليه السلام بالصمت لعل أحدهم ينهض فيقتله من تلقاء نفسه جزاء خيانته ونذالته،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير