تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلما لم يفعلوا وهبه العفو المطلوب. ولما فُتح الموضوع بعد ذلك وعرفوا ماذا كان يدور في نفسه عليه السلام ساعتها سألوه لِم لَم يغمز لهم بعينه، فكان جوابه أن مثل هذا العمل لا يليق بالأنبياء (141).

وإن تفانيه في الصدق ونفوره القاطع من الكذب هو الذي جعله يلتفت إلى ما اضطر إليه أبو الأنبياء «إبراهيم»، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، من تجاهل للحقيقة، وإن لم يتجاوز ذلك ثلاث مرات (142).

ولا يحسبن ظانٌ أنه عليه السلام قد قال عن خليل الرحمن ذلك لمزًا له من طرف خفي، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يذكر إخوانه الأنبياء إلا بخير: ومن ذلك وصفه في أحد ابتهالاته لربه «إبراهيم» عليه السلام بأنه عبد الله وخليله ونبيه، بينما لم يصف نفسه إلا بالعبودية والنبوة فقط (143). كما كان ينهى أن يفضله أحدٌ على «يونس بن متى» عليه السلام (144). أما عن «يوسف» عليه السلام فكان يقول: «لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبت» (يشير عليه الصلاة والسلام إلى أن يوسف رفض أن يخرج من السجن إلا بعد ظهور براءته تمامًا خالية من أي شك) (145). كذلك لما سُئل: «أي الناس أكرم»، كان جوابه: «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» (146). وعن أحب صيام وصلاة إلى الله قال إن أحب الصيام إلى الله صيام «داود»، وأحب الصلاة إليه سبحانه هي صلاة «داود» (147). حتى «موسى» عليه السلام، نبي اليهود، الذين لقى سيدنا رسول الله من خبثهم وقلة أدبهم وخيانتهم ما لقى، والذين كانت بينه وبينهم حروب وثارات ذحلاء رفض أن يخيّره أصحابه عليه قائلًا: «لا تخيّروني على «موسى»، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله». وحتى يعرف القارئ عظمة هذه الشهادة ودلالاتها على صدقه عليه السلام أذكر أن ذلك القول منه كان تعقيبًا على مشادة وقعت بين مسلم ويهودي أقسم المسلم فيها قائلًا: «والذي اصطفى «محمدًا» على العالمين»، فقال اليهودي بدوره: «والذي اصطفى موسى على العالمين». فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي، فذهب هذا على رسول الله فأخبره بالأمر (148). غير أن ذلك كله لا يعني أنه كان يرى نفسه ضئيلًا بجانب إخوانه الأنبياء. إنما هي العظمة والثقة والتواضع، وإلا فهو القائل إنه يرجو أن يكون أكثر الأنبياء أتباعًا يوم القيامة (149). كما أن الشفاعة الكبرى قد ادُّخرت له (150). وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: «قال رسول الله: أُعطيت ما لم يعطَ أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسُميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم» (151). فهل رأيت دقة في تقويم قدره وأقدار العظماء من إخوانه الأنبياء أدق من هذه؟ إنها الموضوعية بدون شقشقة أو ادعاء.

وهذه العظمة النبوية والثقة بالنفس التي جعلته يتواضع لإخوانه الأنبياء هي التي جعلته يرسل الرسل والكتب إلى ملوك العالم من حوله، هؤلاء الملوك الذين تعود زعماء العرب منذ أدهار أن ينحنوا لهم إذا دخلوا عليهم (152)، وكان أقصى ما يتطلع إليه أنظار هؤلاء الزعماء هو أن يكون الواحد منهم على دُويلة تتبع إمبراطورية كسرى في الشمال الشرقي أو إمبراطورية هرقل في الشام. أما «محمد» عليه الصلاة والسلام فقد حطم هذا كله تحطيمًا حين أرسل كتبه على هؤلاء الملوك يدعوهم في عبارة موجزة حاسمة كلها ثقة بالسماء وبالدين الذي أوحي إليه وبرسالته على الدخول في الإسلام، وإلا فإنهم يتحملون وزر أتباعهم المستضعفين. وقد أخرجت كسرى عن طوره هذه الجرأة التي سوَّلَت لمحمد أن يضع اسمه قبل اسم الإمبراطور الجبار، فمزق الكتاب وأرسل إلى عامله على اليمن أن يأتيه برأس محمد (153)، وهو ما يدل على خطورة الخطوة التي خطاها الرسول والتي لا يمكن تفسيرها إلا بأنه رسول موحى إليه من السماء، وإلا ما فكر مجرد تفكير في إرسال خطاب إلى كسرى أو هرقل أو مقوقس مصر ولو لعرض خدماته عليهم (154).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير