تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على أن ثمة مقياسًا نفسيًّا آخر يقاس به صدقه عليه أفضل الصلاة والسلام وأمانته هو أنه لم ينقلب قط على أحد من أصحابه، وكذلك لم ينتقض واحد من أصدقائه عليه ولم يتنكر له أو يغير رأيه فيه ولو بعد وفاته عليه السلام بعشرات السنين. إن من المستحيل أن يحتفظ كاذب مخادع بمثل هذه الصداقات النادرة المتنوعة كـ «أبي بكر» و «عمر» و «عثمان» و «علي» و «معاوية» و «أُبيّ» و «خالد» و «عمر» و «أبي موسى الأشعري» و «أبي ذر» و «أبي هريرة» ومئات غيرهم من الذين عاشوا على مقربة منه واستحقوا أن نقول عنهم إنهم أصحابه (أصحابه بمعنى «أصدقائه»، لا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، فهذه تشمل عشرات الألوف). إننا نرى الحاكم أو الزعيم من هؤلاء في الماضي أو في الحاضر لا يكاد أحيانًا يمر يوم عليه من غير أن تسوء العلاقة بينه وبين هذا أو ذاك ممن وقفوا معه وآزروه وأتوا به إلى الحكم فينقلب أحدهما على الآخر، أما مع «محمد» فالأمر مختلف تمام الاختلاف. ومثل هذا الصِّديق لا يمكن أن يكون مزورًا كذابًا (155).

وما قيل عن أصدقائه يقال عن زوجاته، فقد كان رفيقًا معهن جمعاوات، وكنّ من جانبهن يحببنه حبًا جمًا ويغِرْن عليه، وبالذات عائشة، التي كانت أصغرهن سنًا والعذراء الوحيدة بينهن. كما كن من أشد أتباعه تمسُّكًا بالدين عبادة وأخلاقًا وكرمًا ورفقًا بالمساكين، سواء في حياته أو بعد مماته. أوليس عجيبًا أن يحظى بحبهن كلهن على هذا النحو رغم أنهن كن في وقت من الأوقات تسعًا، ورغم اختلافهن سنًا وبيئة وشكلًا ودينًا؟ ترى لو كان كاذبًا محتالًا أفما كُنّ أو كان بعضهن على الأقل سيلحظن ذلك؟ وعندئذ أوَما كُنّ سيتمردن عليه أو تتناثر من أفواههن بعض الكلمات هنا أو هناك يعبرن بها عن ارتيابهن فيه ولو بعد وفاته، وبخاصة أنهن كن ضرائر؟. لقد بلغ من حبهن له أن رفضن جميعهن رفضًا باتًا أن يطلقهن عليه السلام حين عرض عليهن ذلك إثر مطالبتهن له بأن تكون حياتهن معه أرفه قليلًا. وكلنا يعرف كيف كان تقشف حياة الرسول! وبلغ من حب أم حبيبة له، عليها رضوان الله، أنها ربأت بفراشه عليه السلام أن يجلس عليه أبوها أبو سفيان، الذي لم تكن رأته منذ أعوام بعد غربة طويلة في بلاد النجاشي وموت زوجها الأول في المهجر، فطوت الفراش عنه وجبهته بالحقيقة حين حاول أن يخدع نفسه بأنها إنما ربأت به هو أن يجلس عليه (156). وأعجب من ذلك أنه عليه السلام لم يكن شابًا ولا كانت حياته في بيته، كما قدمنا، لينة بله مترفة (157). ثم تأتي عجيبة العجائب! لقد نزل الوحي يحرم الزواج على هؤلاء الزوجات جمعاوات إلى الأبد، ومعظمهن شوابّ، فلم تنبس واحدة منهن ببنت شفة تذمُّرًا. ثم مات الرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بقليل فلم تفلت من فم واحدة منهن ولو عفوًا كلمةً تنفِّس بها عن ضيقها من هذا الحرمان الذي كتب عليها إلى آخر حياتها. لو أن الرسول مات وهو شاب لقلنا: لقد امتثلن لهذا التحريم وفاءً لشبابه الذي اغْتُضِر! لو أنهن عشن معه عيشة مترفة لقلنا: إنهن سيعشن ما بقي لهن من عمر على ذكرى الأيام الناعمة! لو أنهن أنجبن منه لقلنا: أنهن سيخصصن حياتهن الباقية لتربية الأولاد، وسوف يجدن في إغداق الحنان عليهم تعويضًا عن فقدان الزوج! لو أنهن ورثن مالًا عريضًا لقلنا: لقد جعلن من هذا المال سلوتهن! لكن شيئًا من ذلك لم يكن. وقد عشن جميعهن بعده عليه السلام ما عدا زينب أم المساكين رضي الله عنها، وبعضهن امتدت حياتهن بعده عشرات السنين، مثل عائشة، التي ظلت على قيد الحياة بعده تسعة وأربعين عامًا (158)، وصفية التي ماتت في خلافة معاوية بعد أن عاشت بعده أربعين عامًا (159)، وميمونة، التي لاقت ربها سنة 36 أو 66 هـ (160)، فلم تُسمع عن واحدة منهن ولو همسة ريبة، فهل يُعقل أن يلتزمن كلهن بهذا التشريع المقصور عليهن وحدهن من بين نساء المسلمين جمعاوات لو أنهن ارتبن في «محمد» عليه الصلاة والسلام ذرة من ارتياب؟ أيرضين أن يحرمن أنفسهن هذا الحرمان القاسي الذي امتد في حالة عدد منهن عشرات السنين، وكان معظمهن (كما قلت) شابات حين تأيَّمن، لمجرد تشريع اخترعه زوج كذاب فلا يتخذن العشاق (161)، أو على الأقل يهربن إلى خارج البلاد؟ ولهن في «جبلة بن الأيهم» حين هرب من العقوبة إلى بلاد الروم وتنصر هناك أسوة. ولا شك أن ملوك البلاد التي حول جزيرة العرب كانوا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير