تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والحقيقة أن الآية المذكورة تنفي أنه كان يقرأ أي كتاب، فلا معنى إذن لقصر ذلك على كتب اليهود والنصارى. أما فهمه لقوله تعالى: «وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ» بمعنى أنك، وإن كنت قبل ذلك تجهل القراءة والكتابة، فإنك الآن تستطيع ذلك فهو فهم غريب، إذ أن حجة القرآن بذلك تتهافت وتصبح غير ذات معنى، لأن رد الكفار حينئذ سيكون كالتالي: «ما دمت تعرف الآن القراءة والكتابة فهذا معناه أنك تستطيع أن تنظر في كتب السابقين وتنقل منها». ولكنهم لما لم يجدوا جوابًا كان ذلك دليلًا على أن فهم «جيوم» للآية غير سليم، وأن المقصود منها هو أنه عليه الصلاة والسلام كان قبل ذلك وظل بعده أمِّيًّا، وإلا فالواحد يستطيع، على طريقة هذا المستشرق، أن يقول إن القرآن ينفي أن يكون «محمد» قادرًا على أن يخط شيئًا بيمينه، ولكنه لم ينف قدرته على ذلك بيده الشمال، فمحمد إذن كان يكتب ولكن بيسراه وهو كما ترى فهم مضحك.

إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فسر الأُمِّية عرضًا أثناء حديثه عن الشهور القمرية إذ قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين» (170). أما قول «جيوم» إن إحدى الروايات قد ذكرت أن الرسول كتب بيده في صلح الحديبية فالرد عليه هو أن الرواية المتلقاة بالقبول هي أنه أمر بكتابة ما طلب المشركون من تعديل في بعض ألفاظ الصلح (171). أما الرواية التي يشير إليها فهي إن صحت يكن المقصود منها هو المعنى المجازي كما هو الحال في قولنا: «حارب السادات إسرائيل» و «بنى عبد الناصر السد العالي» وما إليه. ومثله ما ورد في البخاري (172) من أن الرسول عليه السلام قد اتخذ خاتمًا من فضة ونقش فيه «محمد رسول الله»، إذ لا يعقل أن الرسول هو الذي نقش ذلك بنفسه، فهو لم يكن نقاش خواتم، بل المقصود أنه أمر بذلك، وإن كانت الرواية التي أشار إليها «جيوم» قد نصت على أن الرسول كتب فعلًا بيده اسمه فلا يدل على معرفة بالقراءة والكتابة، فربما كان عليه السلام يستطيع كتابة اسمه وقراءته فقط كما هو الحال بين كثير من الأُمِّيِّين الذين نعرفهم. على أية حال فليس من الحكمة في شيء أن نتمسك برواية واحدة غير مشهورة ولم ترد في المصادر الأصلية لسيرة الرسول عليه السلام ونترك كل الروايات الأصلية المتضافرة على أنه عليه السلام كان أمِّيًا. أما استبعاده أن يطمئن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أحد غيره يكتب له الفواتير ويقرأ له الرسائل التي ترد فليس له أساس إلا مجرى الهوى، وإلا فإن كثيرًا من التجار والمقاولين في القاهرة المعاصرة، التي لا شك أن مستواها الحضاري والثقافي أرقى ألف مرة من مستوى مكة في ذلك الزمان، لا يستطيعون القراءة والكتابة ولا يمنعهم ذلك من النجاح في تجارتهم إلى درجة أن بعضهم يصبح مع مر الأيام مليونيرًا (173). لا ليس من المعقول أن يعيش النبي ثلاثًا وستين سنة فلم نسمع بواقعة محددة كتب فيها رسالة أو قرأ فيها كتابًا أو حتى ورقة سوى هذه الإشارة المقتضبة إلى أنه كتب في صلح الحديبية كلمة لم يرض الكاتب المسلم أن يكتبها بنفسه، فنسارع إلى تصديق هذه الإشارة المقتضبة المغموزة ونهمل كل تلك الوقائع القاطعة.

ومما اتهم به المستشرقون نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأعطر السلام أنه قد تعلم أشياء من «بَحِيرا»، بل إن بعضهم يزعم كذبًا أنه عليه السلام قد سكن مع هذا الراهب أثناء إحدى رحلاته إلى الشام (174)، وهو ما يدلك على أسلوب القوم في محاربة الإسلام، إذ أن السيرة واضحة تمام الوضوح هنا. وقريش نفسها، وقد كان منها من حضر واقعة اجتماع «بحيرا» بالصبي محمد، إن صحت الرواية أصلًا، لم تتهم الرسول بذلك، فكيف يأتي الأوروبيون بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا فيتخيلون ويزعمون؟ إن «واشنجتن إرفنج» يفسر اهتمام «بحيرا» بالصبي «محمد» بأنه كان يريد تنصيره حتى إذا ما رجع إلى قومه قام هو بدوره بحمل بذور النصرانية إليهم (175). أتدري ماذا كان عُمْرُ «محمد» عليه الصلاة والسلام آنذاك؟ لقد كان عمره اثني عشر عامًا! ومع ذلك يزعم «إرفنج» هذا الزعم السخيف، وكأن لم يكن في القافلة العربية، التي تقول الرواية إنها حطت رحالها قريبًا من صومعة «بحيرا»، رجال يمكن لهذا الراهب أن يتوجه إليهم بدعوته. أليست هذه بالذمة «مَعْيَلة» من «بحيرا» أو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير